قد يكون من المفارقة بمكان، أن يشترك اثنان أحدهما ميت الشاعرة الراحلة أمل جرّاح والآخر كان حيًّا آنذاك زوجها الروائي والشّاعر ياسين رفاعية، في تأليف كتاب واحد في الحبّ والمراثي، هو كتاب "كأنك الخيط في الثوب" عن دار نلسن 2008.
إن القصائد التي يكتبها الشّعراء في الأحبة الذين يموتون، هي تميمة بالكلمات، مرفوعة في وجه الموت وصولة التراب على الجسد الجميل
وحين نقول يتشارك اثنان في إصدار عمل شعريّ واحد، فإنّنا نقصد المشاركة الفعلية النصّية، بإثبات نصوص شعريّة للشّاعرة الرّاحلة، لم تنشر من قبل، وجدت بين أوراقها المتروكة في حوزة شريكها في الحياة والكتابة، ياسين رفاعية، ونصوص أخرى تليها للكاتب نفسه، بحيث أتى الكتاب عملًا واحدًا يضم على التوالي قصائد للمرأة والرجل، لكن التشّارك في تأليف الكتاب، يتعدى التنسيب والترتيب الشكليين لقصائده، الى جوهر الصنيع الشعري بذاته، حيث تظهر تلك المنطقة المشتركة الغامضة بين الحياة والموت، فثمة عروض في هذه المنطقة أو الحقل المشترك، تمتد من ضفة الحياة الى ضفة الموت، كما ثمة عروض تمتد من ضفة الموت الى ضفة الحياة... كل ذلك يحصل ويتفاعل في نصوص نهر واحد بضفتين، يشقّ حقل الكتابة في مجموعة "كأنكِ الخيط في الثوب".
اقرأ/ي أيضًا: زيجمونت باومان.. نقد صلب لـ"الحب السائل"
قرأت ذات مرة، للشاعرة المريضة التي قتلها قلبها، فغادرت الحياة على سرير مستشفى لندني بتاريخ 6 شباط/فبراير 2004، جملة في قصيدة، ولعلها جملة في رسالة خاصة، لم أعد أتذكر، تقول فيها: "آتي إليك أتعكّز على قلبي". إنّه القلب المريض العكاز لصاحبته الشّاعرة، والعبارة الشّعرية الفريدة هذه، هي مفتاح شعريّة أمل جرّاح، حيثُ يختلط شغف الحياة بالألم، والحب بالخوف، ويسرق الكائن البشريّ لحظات حياته، بالصّعوبة نفسها والخطر نفسه، الّذي تتسلّل فيه بعض الطّيور، بين فكّي تمساح مفترس يتمدّد على الشاطئ، فتسرق قوتها من بين أسنانه، وهي لا تعلم متى ينطبق عليها فكّا التمساح فيسحقها.
هكذا اختلست أمل جرّاح لحظات حياتها القصيرة، من بين فكّي المرض، وحين جاءها الموت، كانت قد استعدّت له بكامل أبهة جمالها، بشعرها الأسود الطويل المرسل على كتفيها، وسمرتها العربيّة الدمشقيّة، وعينيها السوداوين كبنّ عَدَن، فصحّ في موتها قول المتنبي إنّ الموت هو "ضَرْبٌ من القتلِ".
يؤرّخ ياسين رفاعية للحظة الأخيرة من حياة أمل جرّاح من خلال الأسطر الأربعة الأخيرة في كتابه، بنصّ بعنوان"6 شباط 2004"، حيثُ أغمضت عينيها الى الأبد، وبقي التّاريخ عنده هو "السّادس من شباط". وهذا التأريخ الطريف، بإيقاف عقارب الساعة على تاريخ محدّد، لا يتجاوزه من بعدها أبدًا، سبق أن قام به المشرفون على منزل محمد إقبال في باكستان بعد أن حوّلوه الى متحف، وأوقفوا ساعة غرفة نومه، على تاريخ تسليمه الروح. فهي لا تزال حتى اليوم، في وضعها الثابت ذاك لم تتجاوزه. إنه شكل من أشكال حفظ الموتى ومعاندة الموت وجريان الزمان، فجسد الملكة الجميلة "حتشسبوت"، المكتشف في مقابر الفراعنة في مصر، لا يزال محفوظًا بمواد الحفظ وأصباغه على امتداد آلاف السنين، حتى اليوم.
إن القصائد التي يكتبها الشّعراء في الأحبة الذين يموتون، هي تميمة بالكلمات، مرفوعة في وجه الموت وصولة التراب على الجسد الجميل، تكاد تحسّ في قصائد ياسين رفاعية، أن أمل جرّاح لم تمت، ولم تغادر مرآتها، وشرفة منزلها، حيث ما زالت تسقي أصص الأزهار، أو تفرد شعرها الفاحم في الشمس، وأنها لا تزال تجلس الى جانبه في المنزل والمقهى والمطعم، وأن أصابعها لا تزال تخطّ كلمات لم تنجزها في الحياة، فعملت على إكمالها بعد الموت.
لو كانت قصائد الحب قادرة على منع الموت، لمنعت قصائد ياسين رفاعية موت أمل جرّاح
وهذا الإحساس بتداخل الأزمنة، أفسح حيّزًا واسعًا لتجربة الكتابة في نصوص "كأنكِ الخيط في الثوب". لا ينوح ياسين رفاعية على أمل جرّاح نواحًا يقطّع نياط القلب، ولكنه يئن أنينًا خافتًا ومخنوقًا مثل من يبكي على نفسه. وجاءت نصوصه بمثابة تسجيل لحظات الفقد والحزن، ورصد لسيرة ذاتية هي في حقيقتها سيرة مشتركة تأبى أن تتمزّق، أو نسيج يقاوم بالإحساس والذّاكرة والكلمات، حقيقة أنّه تمزّق بأشرس سلاح الدهر في الموت.
اقرأ/ي أيضًا: صادق جلال العظم.. تفكيك الحب
لو كانت قصائد الحب قادرة على منع الموت، لمنعت قصائد ياسين رفاعية موت أمل جرّاح... وفي ما يشبه التماهي بها، وتماهيها هي بالوجود يقول: "أنت العصور المتقدمة والمتأخرة... نجمة الله في جنون الاشتهاء/ ما زلت مشبعًا برائحة جسدكِ/ أرتعش كعصفور مبلل بالماء/ في شعرك المتهاطل من حولك صهيل خيول برية/ تثب إليك العناصر فتعيد تكوينها/... أنا العاشق: ها أنا على المفارق والشوارع أتلمس غبار خطواتك على الأرصفة" ( من قصيدة حرير).
ولعلّ هذا الإحساس بتداخل عناصر المرأة المحبوبة بعناصر الكون، وبالتالي ذوبان أجزائها في عناصر هذا الكون من ماء وشمس وظل وبحر وغيوم... هو الذي يسيطر على قصائد الحب العذبة للديوان. صحيح أنّ العنصر التأثّري أو عنصر اللهفة العاطفي هو الذي يشكل أساس نصوص الحب والرثاء هذه، لكن مباشرة الإحساس بأدواته، والوقائع بآثارها الملموسة، منحت الكتابة بعدًا محسوسًا concret، أكثر مما جنحت بها نحو المجرّد والتأملي. فالشاعر لا يكتب نصوصًا تأملية وفلسفية في الحياة والموت، والمرض والجمال والعلاقات البشرية التي يقصفها الموت، ولكنه يكتب لحظات عيش محسوس، وعلاقة حب وعشرة موصوفة، فهو لا يرثي الجمال الآفل والحب الميت، ولكنه يرثي الجميل ويسميه باسمه "أمل جرّاح" والحبيب والشريك ويسميه باسمه "أمل جرّاح"... ذلك ما فعله الكاتب بالنص والتسمية مثلما فعله في محتويات النصوص وإشاراتها الكثيرة...
يقول في قصيدة "في هذا الغياب":
"أمل جرّاح
أنحني أمام مقامك المقدّس
في ظلال الليل وسواد الانكسار
أيتها الأميرة العابقة برائحة الياسمين
واكتمال لحظة السك".
ويذكر اسم المحبوب المرثي أو الموصوف في أكثر من موقع ونص قصيدة "أمل جرّاح بيتي في العراء"، "أرمل الشمس". كما يذكر تفاصيل ووقائع وأوصافًا من حياة مشتركة، لا يريدها أن تنطوي، ويقاوم البلى بإثبات تفاصيل العيش الذي سطا عليه الموت، ولكنه تارة يذكر هذه التفاصيل وكأنها لا تزال حية وراهنة لم يشملها الانطواء، وطورًا يذكرها وكأنها تستعاد بالمخيلة، أو بأحلام اليقظة، صارخًا "سيدة الشرف والحلم والقوة: اخرجي من قبرك"، مشيرًا الى زياراته القبر، وكأنها مواعيد للقاء العشاق: "هل ترينني كل صباح/ أهفو الى المكان المسوّر بأشجار الصنوبر/ حيث ظلالها على الرخام الأبيض/ مزيّن باسمكِ الجميل".
أمام السفر إلى المجهول الموت يقف الإنسان حزينًا مكسورًا خائفًا، فليس كالموت مفجّرًا لأسباب الحياة، والمخيّلة، والتأمل كما للانفعال
وتراود الشاعر أحلام أو أضغاث عودة الموتى، فيكتب في قصيدة "ليس حلمًا":
"أراكِ تدقين الباب
وترمين عليَّ الصباح".
ويعيد ذلك بصيغة أخرى:
"دائمًا أتخيّل فيها معجزة
تدقين فيها الباب وتعودين".
اقرأ/ي أيضًا: الحياة العاطفية للفلاسفة
أمام السفر إلى المجهول الموت يقف الإنسان حزينًا مكسورًا خائفًا، فليس كالموت مفجّرًا لأسباب الحياة، والمخيّلة، والتأمل كما للانفعال. أسحب من الحياة عنصر الموت، تسحب من الحياة عنصر الحياة. لكن الموت بالتأكيد ليس هو الفناء والاندثار. إنّه الوجه الآخر للحياة... كما أنّ الليل هو الوجه الآخر للنهار. في مأثور الكلام القدسي القول المعبّر الآتي: "الناس نيام: فإذا ماتوا انتبهوا".
كثيرة هي الجمل المعبِّرة والعميقة والجميلة في نصوص "كأنكِ الخيط..."مثلما جاء في نصّ "أرمل الشمس": "ألملمُ الطُّوفان مِنْ أكواخِ الذّاكرة/ شجرًا ينزفُ دمًا ووجهُكِ لا يفيق".
اقرأ/ي أيضًا: