يعتقد كثيرون أن القرن الأمريكي شارف على الانتهاء، وقد أظهرت استطلاعات الرأي في السنوات القليلة الماضية أن المستطلعين في 15 بلدًا من 22 بلدًا يرون أن الصين سوف تحتل، أو أنها احتلت فعلًا، موقع الولايات المتحدة بصفتها القوة العظمى في العالم. وتوصل استطلاع أجراه معهد بيو في العام 2014 إلى أن 28 بالمئة فقط من الأمريكيين يعتقدون بأن بلادهم "تقف فوق الجميع"، مقابل 38 بالمئة قالوا ذلك العام 2011.
يعتقد كثيرون أن القرن الأمريكي شارف على الانتهاء، ويرون أن الصين سوف تحتل، أو احتلت فعلًا، موقع الولايات المتحدة بصفتها القوة العظمى في العالم
غير أن جوزيف ناي يخفّف من وقع هذه الإشارات، مستشهدًا بالعبارة المازحة لمارك توين: "لقد بولغ كثيرًا في التقارير التي تحدثت عن وفاتي". وفي كتابه "هل انتهى القرن الأمريكي؟" (ترجمة محمد إبراهيم العبدالله، العبيكان 2016)، يذكّر ناي بسلسلة من التوقعات المشابهة الخائبة: بعد الاستقلال الأمريكي، في القرن الثامن عشر، أعرب السياسي البريطاني، هوراس وولبول، عن أسفه لأن مساحة بريطانيا قد تقلصت إلى حجم جزيرة سردينيا، فيما أثبتت الوقائع أن بلاده كانت تتهيأ لدخول قرنها الثاني بصفتها قوة عالمية عظمى، بل إن القرن التالي (التاسع عشر) كان الأكثر زهوًا وازدهارًا. وفي ثمانينات القرن العشرين صرخ خبير اقتصادي أمريكي شهير: إذا كانت الإمبراطورية البريطانية قد استمرت قرنين فلماذا بدأنا بالانحدار بعد نحو 50 سنة؟ وإثر انهيار الاتحاد السوفييتي توقع خبير سياسي بأن الولايات المتحدة ستكون التالية، وسوف يكون انهيارها سريعًل.
اقرأ/ي أيضًا: عمّان: الحقّ الضائع في مدينة ليست لأهلها
ويخلص ناي إلى أنه يتوجب "علينا أن نتحلى بالتواضع ونحن نحاول الإجابة عن عنوان هذا الكتاب".
ليس كتاب ناي هو الأول في تصديه لهذا السؤال، فقد سبق لفريد زكريا أن أصدر، إثر وصول أوباما إلى البيت الأبيض (2008)، كتابًا بعنوان "عالم ما بعد أمريكا"، وفيه يقول الصحفي الأمريكي من أصل هندي إن الولايات المتحدة "لا تنحدر بسرعة، ولا هي على وشك ان تُستبدَل بدولة أخرى غيرها"، وهو يعزو التغير الحاصل إلى نهوض الآخرين لا إلى انحدار بلاده، متوقعًا أن يستقر العالم على نظام لا تعود فيه أمريكا هي القوة العظمى الوحيدة، بل القوة الأولى بين قوى كبرى عديدة.
أما زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس الأسبق جيمي كارتر، فقد نشر في العام 2012 كتابًا بعنوان "رؤية استراتيجية"، تحسر فيه على تضييع واشنطن للفرصة الذهبية التي لاحت عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث كان بإمكانها أن تستمر لعقود بوصفها القوة العظمى الوحيدة في العالم جاعلة من القرن الواحد والعشرين قرنًا أمريكيًا أيضًا. وتوقع بريجنسكي أن يستمر انتقال ثقل العالم إلى الشرق، داعيًا بلاده إلى رعاية انبثاق غرب واسع وموحد قادر على الموازنة. ومؤكدًا على ضرورة احتواء الصين سلميًا تمهيدًا إلى عقد شراكة معها، سياسية واقتصادية، على مستوى العالم.
وما هي إجابة جوزيف ناي عن السؤال الذي عنون به كتابه؟
لا يجاري المؤلف الاستنتاجات القطعية والنبوءات الحتمية، والتي وصل بعضها إلى درجة تعيين عام محدد سوف يحدث فيه الانهيار الأمريكي، وكذلك هو لا يساير تلك التأكيدات مفرطة الثقة التي تتحدث عن أبدية أمريكية. وبعد بحث في سجل الصين والقوى المرشحة الأخرى، وكذلك بعد استعراض الإمكانات الهائلة ونقاط الضعف الأكثر تأثيرًا في سجل بلاده، يتوصل إلى أن الولايات المتحدة سوف تستمر في امتلاك القوة العسكرية والاقتصادية والقوة الناعمة أكثر من أي بلد آخر، ومع ذلك فمستقبلها كقوة عظمى يتوقف على عدد من الأسئلة: هل ستختار أن تحول هذه الموارد إلى سلوك قوة فاعلة في المشهد الدولي؟ كيف وبأي طريقة ستنخرط في الشؤون الداخلية للدول الأخرى؟ كيف ستبني وتدعم المؤسسات، وتخلق الشبكات، وتؤسس سياسات تتعامل بها مع القضايا الدولية؟ كيف ستحافظ على مصداقية تحالفاتها؟
جوزيف ناي: "من المرجح أن يستمر القرن الأمريكي لعدد من العقود على أقل تقدير، لكن سيبدو مختلفًا تمامًا عما كان عليه"
القرن الأمريكي ــ يقول ناي ــ لم ينته إذا كنا نقصد بهذا العهد الاستثنائي الذي تفوقت فيه أمريكا في موارد القوة العسكرية والاقتصادية والقوة الناعمة، وفي تزويد السلع العامة الكونية. "وخلافًا لهؤلاء الذين يعلنون أن هذا هو القرن الصيني، فنحن لم ندخل بعد عالم ما بعد أمريكا"، لكن القرن الأمريكي لن يستمر كما كان في القرن العشرين، فحصة الولايات المتحدة من الاقتصاد العالمي ستكون أقل، والتعقيدات المتمثلة بصعود دول أخرى ولاعبين غير حكوميين سوف تحول الهيمنة المطلقة إلى ذكرى من الماضي. وفي عالم متعدد الشركاء كهذا لا بد أن يسود مفهوم الريادة عوضاً عن الهيمنة.
اقرأ/ي أيضًا: "سياسة الإذلال".. في تفكيك العار وأدواره
ويختم جوزيف ناي: "من المرجح أن يستمر القرن الأمريكي لعدد من العقود على أقل تقدير، لكن سيبدو مختلفًا تمامًا عما كان عليه".
اقرأ/ي أيضًا: