من الأردن ومصر إلى أوروبا، يشق المطبخ السوري طريقه ليحظى بفرصة إثبات نفسه في المجتمعات المضيفة كوجه من وجوه التعبير عن الثقافة السورية. وللحديث عن هذا الطريق كان لـ"الترا صوت" حوار مع الباحثة والمدونة في شؤون المطبخ السوري ريتا باريش، ومؤسسة مجموعة من المبادرات التي تعنى بالتعريف بالمطبخ السوري على فيسبوك، كمجموعة "مطبخ غربة" وبرنامج "ألف طبخة وطبخة"، الذي تعده باريش بالاعتماد على ذاكرة الشخصيات التي تحكي لنا ذكرياتها عن طبخة ما، إلى جانب طريقة تحضير هذه الطبخة، ليبتعد الموضوع عن مجرد كونه برنامج طبخ يدور حول الوصفات والمقادير، ويدخل إلى العالم الخاص لكل مشارك في إعداد "ألف طبخة وطبخة" وكل عضو متابع في مجموعة "مطبخ غربة".
من الأردن ومصر إلى أوروبا، يشق المطبخ السوري طريقه ليثبت نفسه في المجتمعات المضيفة كوجه من وجوه التعبير عن الثقافة السورية
عن هذا تقول ريتا باريش: "لا يتوقف الموضوع عند طريقة التحضير، بل هو يخص علاقتنا مع مأكولاتنا، وعلاقتنا مع الذكريات المرتبطة بها، كما ويخص علاقتنا مع المكان، والتي بدأت تتلاشى شيئًا فشيئًا. سيعرف لاحقًا الجيل الثاني منا هذه الأكلات، ولكن بالطريقة التي سيتعلمونها من خلالنا أو بطريقة أخرى، نحن نؤكد على موضوع التوثيق، توثيق تاريخ الطعام السوري، في هذه اللحظة التي يتغير فيها التاريخ نحو اللاعودة".
اقرأ/ي أيضًا: المطبخ العربي في أوروبا: هل يقدم رأيًا ثقافيًا؟
وتضيف ريتا باريش لـ"الترا صوت": "اعمل اليوم على مشروع حول توثيق الذاكرة السورية الجمعية من خلال المطبخ وبالاستفادة من شبكة العلاقات التي خلقها مطبخ غربة، حيث يجد الناس الرغبة بالتحدث وإخبار ذكرياتهم حول الطبخ".
وتتابع ريتا باريش: "أفكارنا تبقى بعيدة عن برامج الطبخ، والتي صارت كثيرة ومتوفرة للجميع على الانترنت ومواقع تعليم الطبخ والوصفات، ولكن الفكرة بسيطة مرتبطة بالذاكرة والتجارب الشخصية، واكتشاف طرق مبتكرة لتحضير الأكلات في الاغتراب.
في مجموعة مطبخ غربة نرى نوعًا فريدًا من التعارف والتواصل بين الأعضاء، ففي أحيان كثيرة يقدم المشاركون وصفات لأكلات غير معروفة بالنسبة لآخرين من السوريين أنفسهم. هناك الكثير من وصفات الطبخ من ريف حلب واللاذقية وحتى منطقة القلمون وغيرها لا يعرفها إلا أهل المكان نفسه، في جذرها حفظ للتراث، وحفظ لعادات معينة كان يقوم فيها أهل المكان. والتي غالبًا ما يكون الطبخ أحد أهم مكوناتها، وحاضرًا أساسيًا في الاجتماعات".
تقول ريتا باريش: "مطبخنا عبّر عنا، كم نحن مختلفون ومتشابهون بنفس الوقت، على سبيل المثال، النسخ المتعددة للتبولة، إن كان القريموطة أوالسفسوف، أو الإيتش وغيرها لها الجذر نفسه، البرغل والبقدونس والأحماض، هذه الأكلات تمثلنا بشكل أو بآخر وتشبه طبيعتنا، فنحن متنوعون ولكن لنا الجذر ذاته".
اقرأ/ي أيضًا: أشهر 10 أكلات في شوارع تونس
سألتها: "الطبخ يعكس صورة ثقافية، وهو مدخل إلى ثقافة البلد، كيف ينعكس هذا الموضوع مع الطبخ السوري؟"، وأجابت: "نحاول تقديم المطبخ السوري كحامل من حوامل الثقافة شأنه شأن الكثير من الفنون، كما أنه رسم صورة من صور السلوك في بلدان اللجوء، فقد عبر كثر من السوريين، خصوصًا النساء اللاجئات في المخيمات أو في مراكز استقبال اللاجئين، عبروا عن امتنانهم من خلال تقديم أكلة ما. كما وتشكلت مؤخرًا من خلال المطبخ السوري شبكة علاقات بين أشخاص مختلفين، ولكنهم لا يختلفون على حب الطعام وارتباطه بالذكريات".
وظف السوريون مطبخهم لإقامة علاقات مع أشخاص مختلفين عنهم في بلدان اللجوء وكان وسيلة للتعبير عن ودهم وامتنانهم في مناسبات عدة
وعن المطبخ السوري وشهرته مقارنة بالمطبخ اللبناني أو المغربي، الأكثر شهرة أوروبيًا، تقول ريتا باريش: "هناك الكثير من المشاريع، كمطاعم الأكل السوري ومطاعم الوجبات السريعة التي بدأت تأخذ حيز اهتمام وتلفت النظر في ألمانيا ودول اللجوء الأخرى، ولكن ليس من السهل إدارة مشروع كهذا، المطعم الذي يقدم الطعام أيًا كان أصله يحتاج لوقت وجهد كبيرين، ممكن مع الوقت أن يحظى المطبخ السوري بشهرة أكبر، كما أن الموضوع مرتبط بالبلد المضيف، ففي ألمانيا لا نرى الكثير من المطابخ المغربية كما هو عليه الحال في فرنسا، بالمقابل المطبخ التركي مشهور أكثر. كما أن الجاليات ذاتها تساهم بنشر هذه الثقافة من خلال تأمينها لاحتياجات أفرادها من المهاجرين، ومع الوقت صار وجودهم في المدن الكبيرة التي تحوي عددًا كبيرًا من السكان أمرًا طبيعيًا وجزءًا من نسيج البلد ذاته وأكلاته".
ويرى البعض أن من أهم ما ينقص المطبخ السوري في أوروبا، غياب المواد الأولية ذاتها التي كانت تستعمل في سوريا، وبذلك يختلف المذاق والجودة، تجيب ريتا باريش: "الطعام الذي نحضره اليوم لا يشبه الطعام الذي كنا نحضره في سوريا، لأن المكونات تختلف، طعمة الخضروات وبعض المواد مختلفة، مثل الطحين والخمائر التي نحضر منها اللبن، هذا الطعام لا يشبه طعامنا بالضبط ولكنه استمرار لقديمنا، دائمًا أطرح مثالًا حول الجيل الثاني أو الثالث من المهاجرين في البرازيل في أول القرن الماضي، فهم حتى اليوم يعرفون الكبة، أو الصفيحة وبعض الأطعمة لا تزال موجودة رغم اختلاف شكلها الحالي. كما أن المهاجرين قديمًا لم يستطيعوا تأمين المكونات والمواد الأولية لتحضير مأكولاتهم، اليوم بسبب تغير حركة النقل، صار الموضوع أسهل. لنتخيل فرضًا المهاجر قديمًا الذي كان يصنع الكبة من مكونات البلد الذي يعيش فيه، حتمًا هي لا تشبه الكبة".
وتضيف ريتا باريش: "في مدينة كبرلين على سبيل المثال يبدو أمر تأمين المواد الأولية والمكونات الغذائية أسهل، لأن الأتراك قد سبقونا في تأمين تلك المواد تقريبًا، كل ما لا تجده في السوبر ماركت تجده عند الأتراك. لا يمكن أن نعرف إذا كان نوع خضرواتنا المتوفرة اليوم تزرع في ألمانيا، أو يتم استيرادها من تركيا، ولكن ما يمكن تأكيده أن هناك الكثير من المعامل التي تصنع وتورد تلك المواد. غالبًا ما أصادف نوعًا من اللبن التركي مصنوعًا في معامل ألمانية وموردًا إلى دول أوروبية أخرى، أتمنى أن أرى المنتجات السورية تصنع وتورد في هذه البلدان. هذا يحتاج لوقت طويل، ولكن أعتقد أنه قابل للتحقيق فهناك الكثير من الطلب على المنتجات السورية".
مرّ عام على انطلاق تصوير برنامج ألف طبخة وطبخة لريتا باريش، ولا يزال إلى اليوم يتابعه كثيرون ويلقى رواجًا من المهتمين بالمطبخ السوري، وتخبرنا ريتا أنه من الممكن ترجمة البرنامج إلى اللغة الإنكليزية وسيتم العمل على هذا المشروع قريبًا.
وتختم ريتا باريش: "جزء كبير من تاريخ الطبخ السوري صنعه الناس الفقراء، من خلال ابتكارهم لطرق تحضير أطعمة مما يتوفر لديهم ويكفي لإطعام عدد من الأشخاص، ولاحقًا انتقل ووصل إلى المدن الكبيرة وعرفه الأغنياء وصاروا يزيدون عليه اللحوم وموادًا أخرى، الأمر الذي جعل من المطبخ السوري متنوعًا ومفتوحًا على التجريب".
اقرأ/ي أيضًا: