في الثالثة والربع من بعد ظهر يوم الاثنين 21 آذار 1983، توجّهنا إلى القرية التي تُجمِع معظم الأخبار والرّوايات المنقولة، أنّ بلوزار ولد وعاش فيها فترة طويلة وأنه لا يزال يعاودها بين فترة وأخرى في مناسبات جليلة أو حدوث كوارث طبيعية وبشرية.
في تمام الرّابعة اجتزنا الطريق الفرعيّة الممتدة إلى تلّة الدّير، حيث لا تزال خرائب مستودعات وبيوت حرس وروائح عظام متآكلة، وأعشاب صدئة ومتكسّرة نبتت فوقها أعشاب صغيرة متكاثفة ومنبسطة بعناية في أطوال متناسبة حول الدير. كان المكان هادئًا ومشرفًا على كلّ ما يسكُن ويتحرّك داخل القرية. وكانت الطريق العريضة المؤدية إلى تلة النبي ساري لا تبعد خطوات عن الحائط الوحيد الذي ظلّ مرتفعًا وجلسنا وراءه ليكون بإمكاننا أن نحتمي من الهواء البارد الّذي يهبّ مساءً من ناحية جبل الشّيخ المشرف على فلسطين.
صبيحة اليوم التالي، أثناء فترة إقامتنا هنا، جلسنا نراقب المارّة وهم يتقاطعون على الطريق ويرموننا بنظرات لا تنم عن الفضول الذي كنا نتوقعه بعد حضورنا، امرأة واحدة فقط صعدت من أسفل التلة ووصلت إلى مسافة قريبة من الدّير انحنت مرّات عديدة إلى الأرض لتلتقط أشياء لم نستطع تحديدها، وتضعها في تجويف فستانها الذي أمسكت بطرفه الأمامي. ولكن هذه المرأة أيضًا لم تكترث لنظراتنا التي كانت تحدّق بإصرار المعرفة ما كانت تلتقطه عن الأرض. لم نستدع في اليوم الأول أحدًا من القرية لكي لا نكشف عن المهمة الموكولة إلينا. وفي اليوم الثاني تعمّدنا الاقتراب من الطريق علّنا نجدُ طريقة ملائمة للتحدّث إلى أحد المارة. انتظرنا ساعات طوال دون أن يمر أحد.
عُدنا إلى الدّير وتداولنا النقاش في خطّة عمل تتيح لنا التعرف إلى ناس نمهد بواسطتهم الدخول إلى القرية. ولكن فجأة، وقبل أن نكمل الخطة، ظهرت المرأة ثانية. المرأة نفسها التي جاءت البارحة، تصعد من أسفل التلة مقتربة من الدير وهي تلتقط أشياء مجهولة. وقف أحدنا ومشى إلى جهة قريبة من المرأة متظاهرًا بأنه يقوم بجمع القش والأحطاب. عاد بعد قليل وقال لنا حجارة! وحين لم نفهم اقترب إلى وسطنا وهو يتابع بصوت منخفض: حجارة صغيرة مربعة كهذه التي استخدمت في تزيين أعمدة الدير وجدرانه المتهدمة. تنتقي الحجارة المصقولة والملساء، التي لا تزال تحتفظ بألوان شفقية وتضعها في فستنانها.
ولكنّها جميلة.
المرأة جميلة.
امرأة جميلة ومضاءة بلون شفقيّ يشبه الحجارة التي كانت تلتقطها. امرأة من نسيم دافئ وملوّح بضوء الشمس. من خزف أحمر يتوهّج في الضوء. امرأة جميلة لا تشبه أحدًا. ولا شيئًا. قال زميلنا كلّ ذلك بهدوء كمن يتحدث إلى نفسه. قاله كأنّه يسبح بعيدًا في بحيرة ساكنة. وفي اللحظة القصيرة، حين توقف عن الحديث، التفت إلى المرأة. كانت تبتعد بثوبها الطويل إلى جهة القرية تلتف بثوبها وتهبط إلى أسفل التلة، ثم تختفي وتتحول إلى شيء غامض.
مضى الوقت سريعًا.
وقع اللّيل قبل أن يعود أحد من المارّة الذين كنا نترقّبهم تبادلنا أفكارًا كثيرة قطعنا بها ليلتنا دون أن نتفق. نمنا قليلًا وصحونا في صباح اليوم الثالث على جلبة أولاد وضجيج يتصاعد من تلّة النبي ساري ويتردّد نحونا ببطء من أسفل الوادي. ارتدينا ثيابنا واتّجهنا إلى هناك، بعد أن تركنا ثلاثة منا في الدّير لحراسة الحقائب والطّعام. كانت الأصوات ترتفع كلّما اقتربنا من المكان.
وصلنا إلى قبر النّبي ساري إلى أعلى التلة التي عرفت باسمه. لم نجد أحدًا. ولكن الأصوات بدت قريبة من حولنا. نزلنا من الجهة الشمالية إلى كرم التين، وإذا بنا أمام رجل يحمل سلة كبيرة ويتنقل بين الأشجار التي يتسلقها عدد كبير من الصبية. نظر الرجل نحونا. تردد قليلًا. ثم اقترب الرّجل متأهلًا بعبارات مقتضبة. مشى أمامنا إلى البهو الفسيح بجانب القبر، المُعَدّ لاستقبال الزائرين. غاب فترة قصيرة وعاد بإبريق الشاي. جلس قائد المجموعة إلى جانبه. قال له أن والدته مريضة وأننا جئنا لنقيم فترة بجوار النبي ساري للصّلاة من أجلها.
لحظات قليلة تالية، وجدنا أنفسنا نستطرد في الحديث: "نحن هنا لليوم الثالث. لم نلتق بأحد. كأننا في برّ بعيد لم يطأه إنسان. امرأة واحدة اقتربت من دير المؤن حيث نزلنا. كانت تجمع الحجارة الصغيرة. رأيناها من بعيد". الرجل كان يستمع ويهز رأسه.
سألنا حين أتينا على ذكر المرأة إذا كنا قد تحدّثنا إليها. قلنا له لا. تنهّد وقال: يقولون وسَكَتْ. سألناه: ماذا يقولون؟
أجاب أنّه لا يعرف، ولكنّه كان يسمعهم يقولون إنها تلتقي به، وأنّها زوجته وأنّها تعيش معه في البيت الّذي تقوم ببنائه منذ سنوات بهذه الحجارة الصغيرة.
بلوزار لا يظهر في الحقيقة منذ أن غادر القرية. هي تقول إنها تراه وإنها زوجته. وأنا لا أعرف أكثر من الذي رأيته.
ثم تابع راويًا: الحاج حسين طلبها وهو يحتضر ولكنه مات قبل أن تصل. وصلت متأخرة. أزاحت امرأته وأبناءه عن الفراش وقرأت له. تنفس الحاج حسين ثانية. عاد إلى احتضاره أولًا. ثم إلى الحياة. أنا رأيت ذلك. الناس كلهم رأوا ذلك. زوجتي شاهدت النقش الذي كانت تحمله. قطعة معدنية نقشت عليها صورة بلوزار. سرقها منها أحد الرجال من القرية. رجل لا أريد أن أذكر اسمه. أخذها إلى المدينة وحاول أن يبيعها. الصّائغ لم يستطع أن يحدّد نوع المعدن. كلّ الذين رأوا النقش لم يستطيعوا تحديد نوع المعدن ليست من الذهب ولا من الفضة ولا النحاس ولا القصدير. ليست من أي نوع من المعادن التي نعرفها.
حين لم يستطع الرّجل أن يبيعها أخذها إلى المخفر. قال أنّه يريد تسليمها إلى الدولة. أخذها رئيس المخفر وأرفقها بتحقيق وأرسل بها إلى المكتب المركزي. وُضِعتْ في مكتب المحفوظات. ولكنّ النقشَ عادَ إلى المرأة بعد ثلاثة أيّام. لا أحد يعرفُ كيف! لم تغادر المرأة القرية طوال هذه الفترة، والنقش عاد إليها. لا أحد، إلى الآن، يعرفُ كيف استردّت المرأة النقش! لكن هذا ما حصل..