عندما فكر بناة الدستور الأمريكي أن يضعوا وثيقة "إعلان الاستقلال" بنوا هذه الوثيقة على أفكار الفيلسوف "جون لوك"، والتي أكدت أن للفرد حقوقًا طبيعية وهبه الله إياها ولا بد له أن يتمتع بها بحكم فطرته، وهذه الحقوق لا يمكن حتى للحاكم أن يهيمن عليها أو ينازع فيها الأفراد، ومن ضمن هذه الحقوق. حق الحياة وحق الحرية، فلابد للدولة أن تقوم بصيانة تلك الحقوق بدلًا من أن تعتدى عليها.
ومن رحم تلك الأفكار ولد فلاسفة ومفكرون تبنوا هذه الآراء، ووقفوا ضد الدولة في الوقت الذي كانوا يجدون فيه تعديًا صريحًا منها على تلك الحقوق، من هؤلاء المفكرين "ديفيد ثورو" الفيلسوف الإنجليزي الذي دفع بفكرة استقلال الفرد إلى أقصاها، فقرر أن يكون للفرد حق الخروج عن الدولة، فيما أسماه "العصيان المدني"، بعد أن وجد من الدولة انحرافًا عن معنى العدالة الوارد في "وثيقة الاستقلال" واعتبر ذلك خيانة كبرى لأفكار "جون لوك"، لذا رأى أنه لابد أن ينسلخ عن الدولة التي ينطوي تحت سياستها لأنها أخلتّ بشروط التعاقد، فكان مصيره مثل مصير أي فرد يحاول أن يرفع الكارت الأحمر في وجه النظام عندما يجد منه ما يعتبره انتهاكًا لحريته المقدسة وإجحافًا لحقوقه المشروعة، فسجن من أجل ذلك.
لكن من طريف ما يُروى كما جاء في كتاب (حياة الفكر) للدكتور "زكي نجيب محمود"، أن "أمرسن" زميله زاره وهو في سجنه، فسأله: "ديفيد! ماذا تفعل هناك داخل القضبان"، فرد "ثورو" على سؤاله بسؤال قائلًا: "وماذا تصنع أنت خارج القضبان". الشاهد هنا وهو أكثر ما يعنيني في إجابة "ثورو" على صاحبه، أو سؤال "ثورو" السجين والمحتجز خلف القضبان، لصديقه الحر الطليق، رغم أن الفاصل بينهما ليس كبيرًا، فما هو إلا سياج من حديد، لكن على بساطته الفظة بدا كما لو كان يفصل بين عالمين، عالم ينعم بالحرية المطلقة يتحرر أصحابه فيه من القيود والأوامر، وعالم قابع في غياهب السجون تضرب الوحدة فيه بأطنابها وتطبع الوحشة على ساكنيها صورتها الكئيبة.
اقرأ/ي أيضًا: محمود السقا في خطر".. يوم للتدوين عن معتقل"!
لو سحبنا خيوط الحكاية إلى واقعنا، وجردنا سؤال "ثورو" من سياقه التاريخي ونفينا عنه خصوصيته، لبرزت لنا قضية مهمة لا يصح أن نغض الطرف عنها، لأنها لا تتعلق بمن هم خلف القضبان بحسب، بل إنها تتعلق بمن هم خارج القضبان أيضًا.
السؤال ينطوي على قضية تحاول أن تبرز لنا حق أُناس دفعوا ثمن حريتنا على حساب حريتهم وحياتهم، ووقفوا في الساحة وحدهم يجابهون النظام ويتلقون ضرباته بصدور عارية، وآثروا حريتنا وسلامتنا على أنفسهم، نحاول أن ننقل سؤال "ثورو" من مجرد كونه سؤال صديق لصديقه في عصر سالف، إلى قضية تصطبغ بقضايا الحاضر المحتجز في الداخل بقضبان الأنظمة ومسربل بسحابات الظلم والقهر، ومن الخارج بقضبان الحزن والأسف على من يقبعون في الداخل.
"ماذا تصنع أنت خارج القضبان؟" لم يكن "ثورو" يرجو من وراء سؤاله إجابة وقتية، بل إنه كان يعطي بسؤاله نصيحة أكثر منها سؤالًا، فهو يوصي صاحبه "أمرسن" وكل من هو خارج القضبان ممن يؤمنون بحرية الفرد وأحقيته في الحصول على كافة حقوقه، ألا يستسلموا للدولة التي تأبى على أفرادها الحرية وتكاد تعد عليهم أنفاسهم، وأن يتصرفوا بناء على ما تمليه عليهم أفكارهم التي من أجلها أصبح "ثورو" هنا -داخل السجن-، لأنه كما يرى فإن الحياة الطليقة في ظل دولة ظالمة هي السجن بعينه لمن ينشد في الحياة عدلًا.
إن الحياة الطليقة في ظل دولة ظالمة هي السجن بعينه لمن ينشد في الحياة عدلًا
إذًا فلا تستبعد إذا جمع بينك وبين أحد القابعين في الداخل لقاءٌ عابر أن يسألك ذات السؤال إن لم يكن سيسأله لك بالفعل، حينها هو لا يريد منك إجابة أكثر ما يريد إيمانًا بالقضية التي من أجلها حرم من ألذ متع الحياة النفسية والجسدية، ينكر عليك أن تطيع الدولة المتسلطة من أجل حسناتها المادية فتتحول مع الوقت عبدًا رقيقًا تتزلف إلى سادتك من أجل فتات يبقونه لك على موائدهم فتبيع روحك نظير ثمن بخس، ولا تجعل السؤال يقع منك موقع الاستنكار والدهشة، لأن الذي أمامك رغم هذه الأسوار العالية والقضبان شديدة الوطأة عجز سجانوه أن يحبسوا روحه كما حبسوا جسده، فاستطاع وهو في ذلك الكهف المعتم بين أربعة جدران أن يحيله إلى عالم أشد رحبًا وسعة.
اقرأ/ي أيضًا: مصر.. ثعابين في زنازين المعتقلات
في تلك الغرف الضيقة والتي لا يعرف نور الشمس لها طريقًا وتفتقد لكل أسباب الحياة، هذه الزنازين على كل ما فيها تكون بمثابة وطنه الاضطراري وقد وجد نفسه مدفوعًا إلى أن يعيش فيه رغمًا عنه، فبني بين جدرانه التي تعج بالمتناقضات -أشد مآسي الإنسانية- عالمه الخاص الذي لا يستطيع جلادوه أن يدنسوه بأقدامهم، فرسم حدوده وتضاريسه بعينيه هو وليس بأعينهم، من تلك الزنزانة الصغيرة التي كان يحيا فيها بين الحب والكره والرضا والسخط، فتغلب على العادة التي يقتضيها الموقف وهو أن يتبنى موقف الكره، فتودد لها كما توددت إليه، لكن عيبها الوحيد أنها حينما ابتلعته في جوفها أبت أن تتكلم وآثرت الصمت، فوجد عزاءه في تلك الحجارة التي تشعر بالألم والقلق مثله.
فنجح عبر تلك الكوة ذات الأحجار القلقة المتألمة أن يصل إلى نفس المعنى الذي وصل إليه "ميرسو" بطل رواية "الغريب" لألبير كامو، في أن أكثر الناس تعاسة استطاع أن يرى عبر تلك الأحجار وجهًا سماويًّا، ومع الوقت أضحت معرفته بها أكثر من أي شيء أو شخص يعرفه خارج القضبان، لكن ما لم يستطع التغلب عليه هو تلك الصرخة المكتومة التي كانت تتنافر بداخله، حتى إذا لم تجد حلقًا يطلقها ويزعج بها سجانيه، ارتدت مرة أخرى إلى الأعماق فضاعت وسط هدير الصرخات الأخرى، واستطاع أن يهبط بشقائه إلى قرارة نفسه فيودعه هناك ويغلق دونه بابًا من الصمت والكتمان، ثم يصعد مرة أخرى ليلقى حياته البائسة بثبات أكبر كما لو كان لا يحمل بين جنبيه همًا ولا كمدًا.
يصعب على الساكنين وراء القضبان أيضًا أن يدركوا معنى الزمن جيدًا، لأنه في العادة تسير الأيام على وتيرة واحدة ولا يوجد بالداخل من يقطع هذا الروتين القاتل، كأن سياط الروتين يلهب نفوسهم أكثر من سياط الجلاد التي تزيل الأيام أثره من على الأجساد بصعوبة، فتتوالى الأيام مثقلة بساعات النوم الذي لا يأتي وإن أتى يذهب سريعًا كأنه يحب ألا يكون ضيفًا ثقيلًا لكن ما إن يأوي إلى النوم حتى يتأبط خيالًا يؤنس وحدته، بالإضافة إلى شبح الذكرى الذي ينهش القلب وينهك الروح، حتى الأيام تفتقد لمعناها فتصير ممطوطة مطًا مزعجًا إلى الحد الذي يصل بها إلى أن تخلق طبقات من الألم يتراكم بعضها فوق بعض، فتكون حياته أشبه بحلم كئيب لا ظل له في الواقع.
أكثر الناس تعاسة استطاع أن يرى عبر تلك الأحجار وجهًا سماويًّا، ومع الوقت أضحت معرفته بها أكثر من أي شيء أو شخص يعرفه خارج القضبان
"ماذا تصنعون خارج القضبان؟" تحول من مجرد سؤال استنكاري قاله "ثورو" إلى قاعدة صلبة لكل صاحب قضية لقي نفس مصيره عندما وجد استهجانًا من الدولة لحقوقه، وأصبحت المعيار الذي يستطيعون أن يقيسوا به مدى اهتمام من هم خارج القضبان بهم وبقضاياهم، وأن يرسموا به دائرة يحصنون بها أفكارهم كي يحموها من مزالق التيه والتخبط، كما قال "ميلان كونديرا ": إن غالبية الناس يحيا وجودها خلال دائرة رعوية صغيرة تحيطها عائلاتهم وبيوتهم وأعمالهم، ويحيون في عالم مطمئن وفي حيز ما بين الخير والشر.
اقرأ/ي أيضًا: لم يربح البيع يا استاكوزا
"ماذا تصنعون خارج القضبان؟" هي الصرخة التي يطلقها من بالداخل في وجوهنا، أننا لم نولد إلا أحرارًا ولا يجب أن نحيا إلا أحرارًا، رغم تلك المحاولات من الجلادين في أن يشوهوا معالم وجهها الجميل كما استطاعوا قبلًا أن يشوهوا الأوطان فأضحت مع الوقت كالخرابات المهجورة. وإلا سنصير مع الوقت عبيدًا للسلطة ننكس رؤوسنا تحت سياطها، لكن تلك الصرخة المنطلقة من الحلوق المكبوتة تشق هذا الصمت المطبق وتمزق عنّا رداء الخوف الذي نلبسه دائمًا.
الحرية التي يريدوها منّا هي الصرخة التي تعلن "لا" في وجه "نعم"، عندما تصبح "نعم" هي النغمة السائدة التي يرددها القطيع الذي لا يعرف بدوره غير هز الرؤوس والذيول فتتحول تلك النغمات إلى رائحة أرستقراطية ودوغمائية مقززة يعكرون بها صفاء سمائنا، والتي تتشابه مع رائحة الجلاد البائس الذي يصرخون من أجله، ثم يهل علينا منظروهم فيمطروننا بتعليقاتهم عن الحرية في الفكر والرأي والتعبير، وهم يستمدون ما يملونه علينا ممن نرفع لافتة "لا" في وجوههم، فكيف لهم أن يحدثونا عن الحرية وهم بعد مغلولون في أصفاد السلطة، فماذا تصنع الجذور الجيدة للشجرة إذا كانت التربة التي تنبت فيها قاحلة وغير صالحة!
من بداخل القضبان، لا يريدون منا أن نتعامل مع سؤالهم كما يتعامل الطالب مع ورقة الامتحان في أن الإجابة لا يجب أن تخرج عن الأسلوب والطريقة التي أملاها عليه المعلم، ولا يحتاجون تحليلات لا تسمن ولا تغني يستغل أصحابها قضاياهم كي يلمعوا من أنفسهم على حسابهم، فقط ما يحتاجونه أن يؤمن بهم من هم خارج القضبان وأن يؤمنوا أيضًا بفكرتهم النبيلة التي من أجلها صاروا بالداخل، وأن نجعلهم دائمًا حديث العالم وأن نقيم الدنيا ولا نقعدها من أجلهم دون استجداء للعواطف، لأنهم أصحاب حق وأصحاب الحق لا يستجدون عطف أحد، لا يريدون منا أن نحصر الحديث عنهم ونختزله في مواقع التواصل فقط، بل يتمنون أن ننطلق بهم من جحور تلك المواقع الضيقة إلى فضاءات الدنيا المطلقة، وأن يكون الحديث عنهم ليس حديثًا موسميًا عارضًا مرتبطًا بمناسبة معينة والتي لولاها لما تكلمنا عنهم، لأنهم بهذا سيتحولون إلى ورقة ذابلة في شجرة سامقة سرعان ما تسقط إن لم نتعهدها بالسقيا.
والسقيا لمن بالداخل هو التعهد بالتذكير بهم وبقضيتهم دائمًا، حتى تظل تلك الورقة على شجرة الزمن صامدة في وجه الأعاصير، فيزدادون بثباتهم في وجه الجلادين إيمانًا بأنفسهم، فالسجين يحتاج هذا النوع من اليقين وهو أن يدرك أنه أقوى من موته وهو القادر على اختيار كيفيته، فإذا كان لديه هذا اليقين يمكنه أن يتحمل أي شيء، حتى يقف أمامنا ويسألنا بثبات مفعم باليقين "ماذا تصنعون خارج القضبان!".
اقرأ/ي أيضًا: