إن أتيح لأحدٍ منّا قراءة عشرة حوارات شعرية فإنه لن يخرجَ بأكثر من رؤية أو رؤيتين مختلفتين للشعر، فالتنظير الشعري يكرر نفسه مع اختلاف العبارة واسم الشاعر/ة والسياق النسبي فقط، ولا أجد في هذا عيبًا فالشاعر غير مطالب بخلق مفهوم شعري جديد عند كل حوار صحفي، أو بعبارة أخرى أنه غير مطالب بأن يصير ناقدًا.
عملية إنتاج الشعر لا تقوم على إحصاءات معينة أو قراءات مقصودة - مع أهمية كل ذلك- بقدر ما تقوم على شيء آخر يصعب توضيحه بطريقةٍ ما، هو الحدس
للشعر الكثير من المشكلات والهموم، الإخفاقات والالتماعات أيضًا، لكن الحديث عن تلك الأشياء لا يعني ابتكار رؤية جديدة، فالشاعر بقدرته على كتابة قصيدة شيقة وغير رديئة يكون قد قدم مفهومه الخاص للعالم ولذاته وللشعر أيضًا، وإلا فما جدوى الالتفاف حول لغة أكاديمية وجافة لإقناع القراء بأنه هنا- وأعني الشاعر- يقدم تعريفًا خاصًا للشعر؟ وهل بإمكان كل شاعر الآن أن يقدم مفهومًا مغايرًا لقصيدة النثر؟ المفهوم ليس الحالة الشعرية بالطبع بمعنى أن قصيدة النثر كخطاب إنساني مواكب للزمن لا يمكنه أن يجدد نفسه بمعزل عن المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية في عصر ما وتلك المتغيرات لا تحدث بين ليلة وضحاها لكنْ لسوء فهم مستعجل راح الصحفيون بعد وباء كورونا يطرحون أسئلة من قبيل كيف تنظر للشعر في العزلة؟
اقرأ/ي أيضًا: أرشيفنا الثقافي: ديوان "لن".. ولادة قصيدة النثر العربية
أو ماذا تعني لك القصيدة بعد الجائحة؟ كما لو أن حظر التجوال لأيامٍ في بلد ما يؤدي إلى ابتكار دلالات خاصة للقصيدة التي من المفترض أن الشاعر يكتبها بعفوية وفطرة وحدس لا يتأثر بالخارجيّ إلا قليلًا.
أن عملية إنتاج الشعر لا تقوم على إحصاءات معينة أو قراءات مقصودة - مع أهمية كل ذلك- بقدر ما تقوم على شيء آخر يصعب توضيحه بطريقةٍ ما، هو الحدس، إذ إن الفعل الأقرب لصناعة الشاعر هو أنه يبدع أي يصنع ألعابه بأصابع طفولية، وربما لهذا السبب نجد المفاهيم الشعرية الأصدق والأشد خصوصية عند الشعراء الموهوبين، الوديعين، البوهيميين أكثر مما نجدها عند الشعراء الأكاديميين والمنظرين وصنّاع البيانات والمدارس الشعرية، التي تعلن أنها ستثور على السائد وتكسر الجمود اللغوي، وأنها ستخلق قصيدة جديدة دون أن تفي بأي من وعودها شأنها شأن الأحزاب والديانات البشرية على مرِّ التاريخ.
بدأت ملامح التنظير الشعري تتضح مع بودلير بعد منتصف القرن العاشر، وتطورت مع إليوت رغم أن تنظيره أخذ منحى نقديًا، وبعد ذلك ازدادت التنظيرات الشعرية ابتعادًا عن الشعر، حد أنك تقرأ تعريفات للشعر تربطه بقوى أسطورية غامضة أو تحمله دلالات علمية وفلسفية صارمة، ويخيل لك أحيانًا أن الشعراء يتحدثون عن النسبية أو ميكانيكا الكم عند حديثهم عن الشعر، ذلك النزوع العاطفي بعقلانيته المحبية، الفلسفي بلغته الشيقة والعصري بمحاولاته للتوغل في عصره، و تلك مهمة أشق من استشراف عصر آخر.
الشاعر مطالب أساسًا بأن يكون شاعرًا جادًا ومخلصًا لموهبته ولغته، ولا يعني هذا أن التنظير للشعر قيمة مجانية بقدر ما أقصد أن تنظيره للشعر لا ينبغي أن يكون عنده أهم من شعره نفسه، فقد صارت أهمية شاعر ما لدى الكثير تأتي من مقالاته النقدية ودفاعاته ومجادلاته لا من قصائده، إن المفاهيم الشعرية مهما بلغت دقة وهدوءًا وحذرًا أن تطيل عمر قصيدة واحدة ولن تخلق نصًا، فالقصيدة الجيدة هي القصيدة الجيدة بغض النظر عن مزاجها سواء كانت سوريالية أو رومنطيقية، حداثية أو ما بعد حداثية.
الشعر يخلق مفهومه بنفسه متجددًا مع العصر متغيرًا مع متغيراته مع إنجازاته وخساراته
الشعر يخلق مفهومه بنفسه متجددًا مع العصر متغيرًا مع متغيراته مع إنجازاته وخساراته، وهذا المفهوم ليس عمل شاعر واحد بل هو من صنع الجميع كما عبر لوتريامون ذات مرة أو لنقل بلغة سعدي يوسف "السير مع الجميع بخطوة وحيدة"، وقصدية هذه الخطوة السرية أن تبدعَ القصيدة لا أن تخلقَ المفهوم.
اقرأ/ي أيضًا: قصيدة النثر في مواجهة التحالفات القديمة
إن الفطرة الشعرية ليست مرادفة للطفولة والبدائية، كلا أنها تعني اليقظة والصفاء، عدم التأثر كليًا بالأصوات الأخرى، أو بالمصادر، إذ إن القصيدة الخالصة هي التي تصارع طواحينها وتطهر نفسها من مصادرها، لتظل وفية لصوت الشاعر الصانع وحده.
فعل "ينظّر" فعل جميل، مشدد ومشبع بالنظر، لكنه لا يساوي الفعل "يرى". إنّه الفعل الأشد خصوصية وضرورة، الأحب بالنسبة لي، ولا شك أنها لعبة لغوية لبيان أن الفعل الذي ينتج قصيدة جيدة أهم من الفعل الذي يهتم بإنتاج تعريفات للشعر فقط.
اقرأ/ي أيضًا: