يحظى المسجد بتقديس خاصّ لدى الجزائريين، فهم يُسمّونه "الجامع"، ويبنونه في أعلى بقعة داخل التّجمّع السّكني. إنّه فضاء تعدّى -منذ استتباب الإسلام في البلاد عام 711 للميلا- احتضان العبادات إلى احتضان لقاءات الجماعة للتّعاطي مع الهواجس والمشاكل والمصالح العامّة.
انطلقت تكلفة مشروع بناء مسجد الجزائر الأعظم بمليار دولار أمريكي، وعرفت زيادات متكررة منذ عام 2012
وفي العادة، يتولّى الشّعب نفسه بناء المساجد، من توفير قطعة الأرض إلى رفع الصّومعة، مع التكفّل بمصاريف التّنظيف وإعادة التّأثيث، من خلال التبرّعات المباشرة التي تشرف على جمعها لجنة يعيّنها السّكّان، أو من خلال الحساب البنكي للمسجد المقترح، والذي يُعلن عنه في لافتات تعلق في الأماكن العمومية، ولا تتدخّل وزارة الشّؤون الدّينية والأوقاف إلا بعد جهوزية المسجد لاستقبال المصلّين بتعيين الإمام ومعاونيه.
اقرأ/ي أيضًا: مساجد الجامعات الجزائرية.. لله أم للأحزاب؟
ومن بين 20 ألف مسجد مخصّص لصلاة الجمعة، من غير احتساب المساجد والمصلّيات المخصّصة للصّلاة العادية؛ نجد عددًا قليلًا فقط أشرفت الحكومة على تشييده، كان آخرها "مسجد الجزائر الأعظم" في خليج الجزائر العاصمة، والذي سيصبح بعد اكتماله الذي أعلنت الحكومة عن تأجيله مرّاتٍ عديدة؛ ثالث أكبر مسجد في العالم، باتساعه لـ120 ألف مصلٍّ، ويتوفّر على أطول صومعة في العالم باقترابها من 300 متر.
وتكلفة المشروع التي انطلقت بمليار يورو، وعرفت زيادات متكرّرة منذ انطلاقه عام 2012، طرحت سؤال الجدوى منه لدى قطاع واسع من الجزائريين، في ظل توفّر ما يكفيهم من المساجد، ما دفع وزير الشؤون الدّينية والأوقاف محمد عيسى إلى القول في مناسبات عديدة، إنّ "المشروع يتجاوز كونه فضاء للصّلاة، إلى كونه مشروعًا حضاريًا يهدف إلى إعادة تكريس المرجعية الفقهية للجزائريين، بعد الاختراقات التي استهدفتهم وجعلت بعضهم عرضة لاستقطابات الجماعات المتطرّفة في الدّاخل والخارج"، ذلك أنّ المسجد الأعظم، بحسبه، "سيتحكّم في مقاليد الفتوى والتّوجيه الدّيني".
وفي السّياق، يتساءل الإعلامي أنيس بن هدوقة: "لماذا نبرة الاستياء هذه من بناء جامع أعظم من شأنه أن يعطي جمالًا للعاصمة، ويكون وجهة سياحية فيها، وقبلة فكرية تدافع عن الإسلام الأصيل وعن التّراث الجزائري، الذي شتّته الأفكار الوافدة؟". ويقول بن هدوقة لـ"الترا صوت" إنّه ينتظر من المشروع أن يكون "مركز إشعاع عربي وأفريقي ومتوسطي يعيد للمغرب الأوسط دوره في نشر الدّين المتسامح والمتفتّح والقابل لقراءة المستجدّات والتّفاعل معها من منطلق التفكير لا التكفير".
وكتب المستشار السّابق لوزارة الشّؤون الدّينية والأوقاف، عدّة فلّاحي، أنّ هذا المشروع "لازلت تأسف له بعض الدّوائر الفرنسية من الناحية المالية"، مستطردًا: "بحيث لم تتمكن من أن يكون لها غنيمة. إلا أنّ ما يقلق فرنسا هو استعادة الجزائر لهويتها الدينية وترسيخها وتخليدها في رمزية الجامع، فأوّل ما شيّدته فرنسا بعد احتلال الجزائر هو كنسية السيدة الأفريقة التي تتراءى لكلّ من يدخل ميناء الجزائر العاصمة على البحر للمكان المرتفع الذي شيدت عليه".
ويضيف فلّاحي في تدوينة على فيسبوك: "لكن اليوم، فكل من يركب الطّائرة، وهي في حالة هبوط في مطار هوّاري بومدين، فأوّل ما يتراءى له هو منارة مسجد الجزائر، التي تستحقّ منّا كلّ التّضحية بالنّفس و النّفيس".
من جهته يقرأ المدوّن والناشط الجزائري مسعود قايدي، ما أسماها "شهوة بناء المساجد" في الآونة الأخيرة، خارج ما يتطلّبه الاكتفاء الذّاتي، إلى "قصور مفهوم الإحسان لدى المسلم المعاصر". ويوضح: "يتحمّس الجزائريون في التبرّع للمساجد، على أهمية ذلك في حالة الحاجة الفعلية إليها، لكنهم يتردّدون في التبرّع لإقامة مدرسة أو مستشفى أو ملعب أو حديقة أو روضة للأطفال أو قاعة للتّوليد، وكأنها ليست مجالات تجلب الأجر والثّواب".
وفي حديث لـ"ألترا صوت"، لازم قايدي المنظومة المسجدية نفسها بقوله: "لم يعد المسجد اليوم منخرطًا في يوميات الجزائريين ومشغولًا بتقديم وصفات تساعدهم على تفكيك فخاخ الحياة، ومنها توسيع مفهوم الإحسان لديهم".
وقفنا في قرية تيزي حسن، على الحدود بين محافظتي البويرة وبرج بوعريريج، على بناء مسجدين لا يبعدان عن بعضهما إلا بنصف كيلومتر، علمًا بأن عدد السكان المؤهلين للصلاة لا يتجاوز 300 نسمة، في ظلّ غياب تامّ لمرافق تدخل في صميم حاجات النّاس، كانوا قادرين على أن يخصّصوا لها تكلفة أحد المسجدين، ما دام يكفيهم الآخر.
يقول "عمر. ب"، 43 عامًا، من سكان المنطقة: "شُيّد المسجد الثّاني بما لا يقل عن 70 ألف دولار، بتبرّعات السّكّان المحتاجين أصلًا، بالنّظر إلى أنّ نسبة البطالة تمسّ نصفه. لكنّنا فشلنا في جمع 10 آلاف دولار لإقامة روضة للأطفال".
ويذهب الباحث في التصوّف والفكر الإسلامي سعيد جاب الخير، إلى فهم الظاهرة من المنطلق السّياسي، فيقول: "عملت السّلطة السّياسية بعد الاستقلال الوطني على تسخير المسجد بصفته منبرًا لتمرير خطاباتها، فهي تختار المشرفين عليه وتحدّد لهم المعالم الكبرى لخطبهم، لهذا فهي تشجّع تشييده على حساب تشييد مرافق اجتماعية أخرى".
سعيد جاب الخير: "عملت السلطة السياسية منذ الاستقلال الوطني، على تسخير المسجد بصفته منبرًا لتمرير خطاباتها"
ويضيف صاحب كتاب "التصوّف والإبداع"، لـ"ألترا صوت" قائلًا: "أمّا من حيث محتوى الخطاب، فإنّ المسجد الجزائريّ يتحرّك خارج التّاريخ. من هنا نجد أن خطب الجمعة اليوم أصبحت مجرّد تجمّعات دورية شكلية بلا جدوى ولا محتوى، بل إنّها تساهم في تجذير ما يسمّيه محمّد أركون الجهل المقدّس والمؤسّس".
اقرأ/ي أيضًا: