02-يونيو-2021

مظاهرة لأجل غزة في بغداد 15 أيار/مايو الماضي (Getty)

في النظرية، قرأنا إن لفلسطين ارتباطًا وثيقًا بكل ما له علاقة بحركات التحرر الوطني ليس على الصعيد العربي والإسلامي فحسب، بل على مستوى العالم. ولعل أمثلة المناضلين والمثقفين والمفكرين المساندين والمهتمين بالقضية خارج محيطنا أدلة على ذلك الارتباط. ربما لأنها القضية الأبرز لناحية فداحة الفعل الصهيوني باغتصابه الأرض وطرده أصحابها من منازلهم، والتي استمرت حتى صارت مبادئ حقوق الإنسان إحدى المسلّمات التي لا يمكن حتى للأنظمة الدكتاتورية تجاوزها ولو في الخطابات والادعاءات.

العاملُ الأهم في قلب الموازين وتشكيل تعاطف عراقي طوعي مع فلسطين هو انتفاضة تشرين، فتسيّس الشبابُ المشارك في الاحتجاجات الشعبية جعلهم يقرؤون المشهد كما ينبغي

ما هو في النظرية لمسناه بنسب مختلفة في الثورات العربية سواء بموجتها الأولى في 2011 أو ما تلاها مؤخرًا. لكن الألغام المتكدسة داخل المجتمعات العربية والتي انفجرت على شكل حروب أهلية وثورات مضادة وانتكاسات اقتصادية وسياسية واجتماعية، ومن ثم هرولة بعض الدول نحو التطبيع وتغول الكيان الصهيوني في انتهاكاته، وقضية صفقة القرن وإعلان ترامب القدس عاصمة لإسرائيل، كل تلك الأحداث غطّت على تطبيق نظرية الارتباط عمليًا.

اقرأ/ي أيضًا: فلسطين كاملة: من المستحيل إلى الممكن

أحد التطبيقات العملية التي يُمكن لمسها بصورة واضحة، ما جرى مؤخرًا مع المعركة التي خاضها الفلسطينيون في الداخل وغزّة مع إسرائيل، من تعاطف عربي - عراقي بالتحديد مع النضال الفلسطيني المدني قبل العسكري، رغم أن صوت الرصاص علا فوق البطولات التي سطّرها فلسطينيو الداخل، وهو أمر طبيعي على أية حال.

كانت الصفحات الإسرائيلية الناطقة بالعربية تعج بالمعلقين العرب ومن أبرزهم العراقيون، ولن يجد المرء وسيلة إحباط أكثر من متابعة التعليقات النابعة - في غالبها- من جزع ويأس وانتكاس على هيئة توسّلات وصرخات استغاثة من واقع مرير لا يجد أصحابه سببًا له سوى أنظمتهم التي تدّعي نصرتها لفلسطين.

من ضمن الحجج التي يسوقها مثقفون، فضلًا عن أناس عاديين لا خبرة لهم بالسياسة، هي التفوق الإسرائيلي العسكري والتكنولوجي والاقتصادي والعلمي على العرب، إضافة إلى قدرة هذا الكيان على إيذاء الدول المعادية له. يوجد صوتٌ مستترٌ داخل الداعين إلى التطبيع يقول بانكسار: نريد التطبيع مع من تسبب بمعاناتنا ولا قدرة لنا على معاداته. لكنهم لا يعترفون بذلك صراحةً لما سيضيفه الاعتراف من عبء أخلاقي: كيف تدعو للتطبيع مع من تسبب بتدميرك هذا؟

على الصعيد الشعبي، لا تُجيب "البراغماتية" على هذا السؤال.

من وجهة نظرِنا، ثلاثة عوامل قادت إلى تضامن غير مسبوق منذ أن كانت الجماهير تساند فلسطين جبرًا وليس طوعًا، سواء عبر الفرض من قبل الدولة مباشرةً، أو عن طريق أجهزة الدعاية والتربية والمدرسة وغير ذلك. العاملُ الأول الذي قلب الموازين وأفضى إلى تعاطف طوعي هو انتفاضة تشرين. تسيّس الشبابُ المشارك في الاحتجاجات الشعبية. لم يعد بعضهم يخلط بين رافعي راية فلسطين في العراق وبين فلسطين التي شاهدها على مواقع التواصل.

بالإضافة إلى عملية التسييس وتفتّح المدركات التي أغلقتها الأحزاب ولوثّها بعض منصات المجتمع المدني، نال الشباب من الظلم والاضطهاد والقمع دون سندٍ محلي أو عونٍ خارجي مقدارًا مكثّفًا أجبرهم على الشعور بما يشعر به أقرانهم خارج الحدود. ولعل ذلك يفسّر اندفاع العشرات نحو الحدود الأردنية في محاولة بسيطة للوصول إلى حدود فلسطين.

سلاحٌ ومستوطنون متطرفون يهاجمون عزّلًا بعلمٍ ووشاح في الشوارع والبيوت والمساجد، مشهدٌ استفز ذاكرة الشباب العراقي الذي عاش هذه الحالة مع أطراف تشاركه القومية والهوية الوطنية والدين، بل والمذهب أحيانًا.

أما العاملُ الثاني، فكان القدرةُ على المجابهة، لكي لا أقول الردع. إن التحدي والصمود الذي أظهره الشباب الفلسطيني (نساءً ورجالًا)، كان ملهمًا بحق، مع فهمٍ بسيط للفارق بين الطرفين والصعوبات التي يعيشها هؤلاء المتحدّون تحت الحكم الإسرائيلي. رافقت ذلك الرشقات الصاروخية التي نفذتها المقاومة في غزّة وتناولتها وسائل الإعلام كنصرٍ عسكري على القبة الحديدية. ليس موضوعنا من انتصر الآن وما حجم قدرة المقاومة على الردع والفارق الواضح في القدرات. إن تفاصيل كهذه سيناقشها الفلسطينيون بعمق ودراية أكبر. ما يهمُنا بهذا الصدد هو شعور المواطن العربي، والعراقي بالذات، المنكسر بفعل الانتكاسات، بقدرة الشباب الفلسطيني على الصمود وكسر هيبة "الجيش الذي لا يُقهر" بالنضال المدني والعسكري. هذا الكسرُ الإعلامي كسرَ بدوره الشعور بالضعف مع "من لا قدرة لنا على معاداته"، وهي الحجةُ التي تصارع ضمائر شعوبنا.

سلاحٌ ومستوطنون متطرفون يهاجمون عزّلًا بعلمٍ ووشاح في الشوارع والبيوت والمساجد، مشهدٌ استفز ذاكرة الشباب العراقي الذي عاش هذه الحالة مع أطراف تشاركه القومية والهوية الوطنية

صار بإمكان مقاطع الفيديو - وليس الخطابات والتهديدات - أن تقول لا؛ بل يُمكننا مجابهة هذا الغول. وخيرُ مثالٍ على ذلك هو حالة التشفّي والمزاح الشامت من قبل المعلقين العرب والعراقيين في الصفحات الإسرائيلية ذاتها التي كانت تمتلئ بالمرحبين بالتطبيع، فما الذي حصل؟ هذا ما حصل.

اقرأ/ي أيضًا: فلسطين التي تحضنا على المعرفة

عاملٌ ثالثٌ يتعلق بالنفس البشرية: إخراج الناس من بيوتهم. قد يُهمل هذا العامل في التحليلات لكنه برأينا فاعلٌ مهم في ربط الشعور الإنساني بين الفلسطينيين وباقي شعوب العالم. يتعاطف الإنسان مع الحوادث حول العالم التي يشعر بأنها تمسّه، وقد تطاله. أن يستولي مستوطن غريب على بيتك دون حق، وبقوة السلاح، أمرٌ يثير حفيظتك طالما كان هناك قلبٌ ينبض بالمشاعر الإنسانية، خصوصًا، وهي نقطة مهمة، بأن أصحاب الدار ليسوا مسلّحين، أو مقاومة تقليدية، لكي تتلاعب الروايات الإعلامية والدوافع الأيديولوجية بالعقول ضاربةً الشعور الأصيل بالتضامن الطبيعي بالانحيازات والمواقف المسبقة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

انتصرت غزّة، ماذا بعد؟

في ضرورة التحرر من نكبة الوهم والاستسلام للصهيونية