30-مايو-2024
جدارية رسمها ناشطون في إدلب دعما لفلسطينيي غزة (مواقع تواصل)

غرافيتي في إدلب

يرى كثير من السوريين ما يحدث في غزة انطلاقًا مما عاشوه خلال سنوات الدم والرحيل التي مزّقت حاضر بلادهم ومستقبلها، أي بطريقة تتصل بالتعبير عن أحوالهم النفسية، فرديةً وجماعية، أكثر من رؤية الأمور بالطريقة المعهودة التي يحتاج إليها من يسعى لبناء مواقف سياسية. ولهذا تحمل القراءات والاستنتاجات التي يصلون إليها ملامح فيها الكثير من عدم الإنصاف، وذلك لكون كل قضية سياسية تتمتع بحساباتها الخاصة، الناتجة عن واقعها السياسي وشبكة القوى الفاعلة فيها، ولا يمكن للقراءة السليمة التي تُبنى عليها المواقف السليمة إلا أن تنطلق من فهم هذه الشبكة.

يُنتج الإسقاط العبثي للواقع السوري على غزة متاهاتٍ فكريةً، لا سيما أن الأول يتضمن صيغة صراع بين شعب وسلطة تطور إلى حرب أهلية، وبين شعب يسعى للتحرر من نوع استثنائي من الاستعمار المحمّل بأطنان من الأساطير حول حقه الشرعية في هذه الأرض، الذي يُبنى عليه حقّ شرعي آخر هو طرد الشعب الأصلي والحلول محله.

وعلى الرغم من وجود نقاط تشابه بين الصراعين إلا أنه من غير الممكن ربطهما في قراءة واحدة تنكر خصوصية كل منها، وتريد قصر مجريات أحدهما لصالح الآخر. لكن الوقائع الدموية تخبرنا أن مآسي الضحايا تُعطّل قدرتهم على إجراء المقاربات المنطقية، لهذا سيعتقدون أن ألمهم هو الألم الأكبر في العالم والتاريخ، مع أنهما لم يكونا في يوم من الأيام سوى صيرورة من العنف والألم اللذين طحنا شعوبًا وأممًا، منذ زمن السيف والسكين وحتى الزمن الذهبي للأسلحة الذكية.

لا يريد الضحايا، ومنهم السوريون، أن يكون هناك ما هو أكبر من ألمهم. هذا مفهوم لأنه يعني أنهم سيُنسون، خصوصًا في لحظة المهانة التي يشهدون فيها تعاطيًا طبيعيًا مع دكتاتور سوريا وكبير جزاريها.

لا يريد الضحايا أن يكون هناك ما هو أكبر من ألمهم. هذا مفهوم لأنه يعني أنهم سيُنسون، خصوصًا في لحظة المهانة التي يشهدون فيها تعاطيًا طبيعيًا مع دكتاتور سوريا وكبير جزاريها

يأخذنا المنطق السليم، في مثل هذه الظروف الكالحة، لما هو أبعد من هذا الاستغراق في آلامنا، ليرينا أن مأساة الشعب السوري جزء من دمار عالمي كبير، تديره وتشرف عليه، أو تدعمه قوى كبرى، عالمية ومحلية، تتصارع لأجل القوة والنفوذ والهيمنة.

أما أن يرى الناس الأمور بناء على ثنائيات الأبيض والأسود، أو الجيد والسيئ، أو الخير والشر.. فهذا أمر مريح من الناحية النفسية لكونه يجعل من وقع عليهم الانتهاك ينامون آخر اليوم، إذ يشعرون أن تبسيط المعاناة يُمكّن الآخرين من استيعابها كي يعترفوا بها ويقدروها.

لا تخدم هذه الآليات النفسية العدالة في شيء، ولا تُنهي آلام المتألمين، ولا تُقدم الإجابات التي يحتاج إليها الناس، بل تساهم في تمزيق الروابط بين الضحايا الذين يحتاجون إليها لفهم آلامهم، والخروج منها، ومحاسبة من تسبب فيها.

وعلى هذا النحو، يقوم جزء كبير من هذه النقاشات على خلل نفسي، ربما يخفى أو يظهر، فنسمع من قام بالثورة هنا رافضًا لها هناك، ومن عرف السجن والتعذيب في بلدان الاستبداد يخفف من وطأتها في البلدان المستعمرة تصديقًا لادعاءات سلطات الاحتلال بتبنيها لمسائل حقوقية.

إصرار كثير من السوريين على اعتبار قيام المقاومة الفلسطينية بعملية 7 أكتوبر خطأ عسكريًّا وتكتيكيًا وأخلاقيًا، انطلاقًا من الاعتبارات النفسية التي أشرنا إليها، يجعلهم يرون ما جرى لغزة كحدث يأتي بجريرة هذه العملية، غير آبهين بالتاريخ الطويل من الظلم الإسرائيلي للفلسطينيين، القائم على سلب الأرض وطرد السكان والفصل العنصري والاضطهاد ونكران الحقوق الوطنية.. بحيث تبدو إسرائيل في مثل هذا المنظور كدولة طبيعية تعرضت للاعتداء، وليست قوة استعمارية تمارس فظائع الحصار والتجويع ضد سكان القطاع منذ 17 سنة.

تشتبك هذه المناقشة مع جمهور الثورة السورية المؤيد لحقوق الشعب الفلسطيني التاريخية والقومية حصرًا، ولا تهتم على الإطلاق بالالتفات إلى، أو التعليق على، الهراء الباطل الذي يخرج من بعض المحسوبين على الثورة ممن أضاعوا ضمائرهم وطريقهم، وراحوا يُصدرون مواقف معادية لفلسطين والفلسطينيين متطابقين فيها مع اليمين المتطرف في أوروبا وإسرائيل، في أشنع شكل من أشكال فقدان البصيرة.

منذ أكثر من 200 سنة، قامت ثورة جبارة في هاييتي، هدفت للاستقلال عن الاستعمار الفرنسي وإنهاء نظام العبودية الذي فرضه. تميزت الثورة بشجاعة قادتها وأفرادها الذين نجحوا في تحقيق استقلالهم عن فرنسا، جاعلين هايتي أول جمهورية تتحرر من العبودية والاستعمار معًا، وأول دولة مستقلة تتأسس على أيدي العبيد الذين انتزعوا حريتهم.

ربما نظر كثيرون إلى هذه الثورة وقت وقوعها بالطريقة التي ينظر فيها كثيرون إلى أحداث 7 أكتوبر بوصفها خطأ، أو مغامرة تنكش عش الدبابير، لكن تحقق الاستقلال وتسجيل العبيد لأكبر ثورة بعد ثورة سبارتاكوس في روما، لم تكن ضمن حسابات من شيطنوها حين كانت حاضرًا بالنسبة لهم، قبل أن ينصفها التاريخ.

ثورة غير متوقعة للكثيرين في زمانها، أثبتت قوة إرادة الشعب الهايتي وقدرته على اجتراح التغيير، رغمًا عن أنف أعتى الأنظمة القمعية والاستعمارية.

لا يسعنا أمام هذا الرفض من قبل مسلمين وسطيين وعلمانيين لكل ما يرتبط بتيار إسلامي سياسي، حتى لو أنه يعمل كحركة تحرر وطني، إلا أن يُذّكر بثورة العبيد في هاييتي، واضعين في الحسبان أن كل ما يجري سيغدو تاريخيًا، وعلى هذا فإن هؤلاء يقفون في صف الأسياد المستعمرِين ضد العبيد قبل أكثر من 200 سنة، واليوم، وفي المستقبل أيضًا.