29-مايو-2023
العنصرية في تركيا

لن نعود وبشار الأسد موجود (Getty)

نتواصل بشكل يوميّ ومنذ بضعة أسابيع مع صديقة سورية، تعمل في إحدى الجامعات، لديها طفلان من مواليد تركيا، لا تربطهما بسوريا سوى ما تسلل إليهما من والديهما من اللغة العربية، ومشاعر الخوف والقلق التي لم يملكا القدرة على الاستمرار في كتمها وإخفائها عنهما. الطفلان يحبّان الإسكندر كباب أكثر من الكبّة السورية، والشاي الأحمر مشروبٌ أساسي لهما، كأي تركيّ آخر. 

صاحب البيت حيث يسكنون، كان طيبًا حتى حين. تغيّر وانقلب بعد الزلزال، ويبدو أنه تأثّر بما طفح من عنصريّة بغيضة في الخطاب العام في البلاد على ألسنة السياسيين وأدواتهم الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي. ورغم أنّه محافظ، ويصوّت بكل حماسة للعدالة والتنمية، إلا أن لوثة العداء للاجئين قد مسّته، وبدأت شكاواه وتهديداته تتصاعد ضدّهم، بعد إعلانٍ مبطّن بالقطيعة، وإشعارٍ بأنه لم يعد لديه ما يمنعه من ممارسة الابتزاز والانضمام إلى حفلة عنصرية مفتوحة من التخويف والنبذ ومعاداة اللاجئين.

تخبرنا الحالة التركية أن الديمقراطية ليست ضامنًا مطلقًا بالضرورة للسلم الاجتماعي، لاسيما في ظروف اقتصادية صعبة وسياقات اجتماعية وهويّاتية معقّدة

الصبيّ وأخته لا يتجاوز مجموع عمريهما معًا 15 عامًا، ومن أوجه الحرمان لديهما أنهما لا يعرفان سوريا حقًا. فهما تركيا المولد والنشأة والدراسة والذكريات. بلادهما توقفت من سنوات طويلة عن منح الأحلام والانتماء والأمان. تدرس الصبيّة بمنحة تحصل عليها بجدارة في إحدى المدارس المرموقة في إسطنبول، لأنها حادّة الذكاء، وأشطر من أقرانها، ورأت فيها المدرسة مشروع مواطن تركي صالح/مفيد. بالنسبة لأهلها، كانت تلك فرصة لمستقبلٍ كريم، بعيدًا عن وطنٍ أصلي ينعدم فيه إسهام السلطة في كرامة البشر، بل ترتكب كل ما يناقضها، في حال أبقت على حياتهم. 

مع التدهور الاقتصادي الذي شهدته تركيا خلال العامين الماضيين، وتفاقم التضخّم، وتهاوي قيمة العملة التركية إلى مستويات تاريخية، انتهزت بعض أطراف المعارضة فيها الفرصة للتأكيد، بشكل طبيعي ومتوقّع في أي سياق سياسيّ، على أن الوضع القائم ينتقص مع شرعيّة السلطة السياسيّة القائمة وحقها في الاستمرار، وأنّ البلاد تستحق قيادة أفضل. تكتيك سياسي مشروع، بين متنافسين على السلطة، يرون في صناديق الاقتراع ساحة للحسم. لكنّ المشهد كان أشدّ تعقيدًا، وبدت الجدالات السياسيّة مملّة وذخيرة انتقاد السياسات الاقتصاديّة والوعد بتغييرها غير كافية. من جهة أخرى، ظهر أنّ التضحية بالسلم الاجتماعي، عبر الاتكاء على خطابٍ كارثي عنصري معادٍ للاجئين، خيارٌ كفيل يتجييش القاعدة الاجتماعية للمعارضة وتحفيز آخرين من الطرف الآخر على الانضمام إليهم في جوقة واحدة، تردّد بلا توقّف عبارة "السوريون راحلون" (كييي دااا جاك، كما كان ينطقها كليجدار أوغلو في محافله الخطابية).

السوريون سيرحلون
"السوريون سيرحلون" كما ظهرت في دعايات كليشجدار أوغلو الانتخابية تحضيرًا للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التركية (Getty)

كان الأمل كما بدا واضحًا لكل مراقب، أن إطلاق هذه الحملة العنصريّة ستربك الشارع المؤيّد للقيادة الحالية في تركيا، وستخلق فوضى تفتك في تماسكها وتشكّك فيما هو متجاوز لخلافات السياسة والاقتصاد: هويّة البلد وثقافة الأجداد وتراث المؤسّسين.

نتائج الجولة الأولى من الانتخابات أعطت انطباعًا مباشرًا بأن هذه الدعاية فعّالة، وأنه يمكن استغلالها لحدّها الأقصى بلا هوادة، وأن الحشد وراء شعار "السوريون راحلون" سيفرّخ نقيضه في مخيّلة عامّة النّاس: أي أن عدم رحيل هؤلاء السوريين سيعني رحيلنا/محونا، وضياع خير بلادنا من أجل بضعة ملايين من السوريين واللاجئين المشكوك في مدى صلتهم بالعرق البشري السليم، عداك عن التركيّ الرفيع، وهي مفردات تنضح بالسمّية والافتراء، تذكّر بأوروبا بدايات القرن العشرين، وبمخلّفات اليوجينيا وهلوسات الطهورية العرقيّة والقومية الولاديّة والتفوّقية التنقويّة وخيالات "التركي الأبيض"، انتشرت في الخطاب العام في تركيا في الأشهر الماضية، وبلغت أشدّها خلال الأسبوعين المجنونين الأخيرين، حتى دخلت مرحلة الصمت الانتخابي مساء السبت المنصرم.

في غير هذا السياق، سيكون مجال الحديث واسعًا عن شكل الديمقراطية في تركيا وتحوّلاتها، وابتعادها عن تلك الصورة المتخيّلة لدى المبشّرين بها والمدافعين عن قيمها الأساسية. لكن، حين أفكّر بتلك الصديقة السورية وأبنائها، وزوجها الذي شُلّت قدرته عن العمل الكريم في الشتات، وأسمع كيف أن اليوم الجيّد في حياتهم أضحى منذ أشهر عديدة هو ذلك اليوم الذي ينتهي بدون تحرشٍ عنصري أو رمقةٍ للأطفال بأعين اللئام ممّن استساغوا خطاب العنصرية والحشد ضد الأضعف والأشدّ هشاشة ممّن حملوا على ظهورهم واحدة من أعظم مآسي القرن على الإطلاق، وحُمّلوا فوق ذلك عبء أن يكونوا طرفًا في معارك نخب سياسيّة لا حدود لما يمكن أن يقوله أو يحرّض عليه بعض أطرافها كي يصلوا إلى سدّة الحكم، بدا واضحًا أن الخيارات صعبة، جميعها لا يخلو من مرارة، لكن المرارة تبقى أهون من خطر حملة التطهير الاجتماعي والعرقي التي كانوا هم هدفًا لها.

بودكاست مسموعة

تخبرنا الحالة التركية أن الديمقراطية ليست ضامنًا مطلقًا بالضرورة للسلم الاجتماعي، لاسيما في ظروف اقتصادية صعبة وسياقات اجتماعية وهويّاتية معقّدة، لكنّها بالنتيجة التي آلت إليها أخيرًا قد تكون فرصة جديدة لاستمرار صيرورتها ونضجها، ووصولها إلى حالة تكون فيها قادرة على إعادة إنتاج ذاتها وفق قيمٍ إنسانية أسمى، وتصبح لعبة تحرّم على من يرغب المشاركة فيها من الفاعلين السياسيين تبنّي آراء عنصرية بائدة وتصدّه عن تبنّي التكتيكات الإحراقيّة الأسديّة أو التهديد بالتطهيرية الصهيونية. 

في الأمس، وصلتنا أوّل رسالة من تلك السيّدة التي لطالما أكرمتنا في بيتها الصغير في إسطنبول. أخبرتنا فور تأكيد نتائج الانتخابات، أنها لا تحبّ السياسة، لكنّها ستنام وهي مرتاحة إلى أن غدها لن يكون على الأقل أسوأ من أمسها، وأنّ كابوسًا اسمه العنصريّة سينتهي ولو مؤقتًا، ولن يتحوّل إلى واقع جاثم رسميًا على صدور البشر.

في رسالة أخرى، أبلغتنا صديقة تركيّة أنها وأسرتها أمام منزل أردوغان في حيّ كيسيكلي في أوسكودار. أرسلت لنا صورًا ومقاطع فيديو، لاحتفالاتهم وفرحهم. لم تحدث مشاكل تذكر. ملأني للحظات عابرة شعور صار قديمًا الآن، عمره 12 عامًا، حين تنحّى حسني مبارك عن الحكم في مصر، وطرنا مع أصدقاء لنا للاحتفال أمام السفارة المصريّة في عمّان. ما زلنا حتى اليوم نطارد هذا الشعور، بعضنا على الأقل، أو من/ما تبقّى منّا. 

أمّا في تركيا، فقد بقي السوريون، وحلّ عنهم كليشجدار أوغلو.