29-سبتمبر-2015

بعض المطاعم تحتفظ بالإكراميات لنفسها (جوزيف عيد/أ.ف.ب/Getty)

ذهبت زينة صباحًا قاصدةً المصرف قبل زحمة الطرقات، إلا أن كثرة السيارات وبعد مسافة الموقف المخصص لركن السيارات، جعلتها تنتظر أمام المصرف، إلى حين قدوم أحدهم لابسًا بزّة عليها شارة المصرف يعمل حارسًا له. أخذ السيارة منها وقال لها "خذي وقتك". بعد خروجها وحين ذهابها سمعته يطالبها بالإكرامية "ما بدك تكارمينا". علماً انه موظف يتلقى راتبًا شهريًا من المكان الذي يُفترض أن يعمل به.

 فيما مضى، كانت الاكرامية تعتبر إهانة أو عيبًا يرفضها العمال. وما زال الأمر كذلك في بعض البلدان، كإيرلندا مثلًا. إلا أن الحال قد اختلف اليوم، حيث تكاد تصير الزاميةً كواجبٍ لا مفر منه، وتحولها إلى عرف أو عادة منصوص في بروتوكول الحياة الاجتماعية. وبعد أن كان منح الاكرامية عيبًا، بات الامتناع عن دفعها هو العيب.

والسائد اليوم، تأتي الخدمة بحسب سخاء الفرد في منح الإكرامية أو البقشيش، فكلما دفعت أكثر كلما تلقيت خدمة أفضل مصحوبةً بكلمات مديح لشخصك الكريم. حتى إن هذه الاكرامية تدفع العامل لتذكرك جيدًا في المرة المقبلة التي تزوره فيها. إذ يرى العامل أموالك ويحفظها جيدًا قبل أن يحفظ وجهك. ومن سخرية الزمن أن البقشيش بات عاملًا مساعدًا يجعل العامل لا ينساك.

كلما دفعت أكثر كلما تلقيت خدمة أفضل مصحوبةً بكلمات مديح لشخصك الكريم!

ليس في إيرلندا وحدها، إنما في اليابان، وحتى اليوم ينظر إلى الإكرامية على أنها وقاحة، بل ويعتبرها اليابانيون إهانة أيضًا، وغالبًا ما تسبب الإكرامية اضطرابًا للعامل أو الموظف، وسيلحق بك لإعادة نقودك. الا أنه في مجتمعنا اللبناني والعربي، وبالرغم من أن العامل أو المحل التجاري يعمد إلى احتساب بدل لأتعابه ضمن الفاتورة إلا أن الطموح في نيل إكرامية أو بقشيش يبقى حاضرًا في ذهن العامل وسلوكه.

إقرأ/ي أيضًا: العملة الوطنية اللبنانية في الميزان

اليوم، أنت تدفع البقشيش في كل خطوة تخطو بها.. مثلًا أنت تدفع إكرامية للناطور صباحًا، لعامل محطة البنزين، للذي تشتري منه الجرائد صباحًا. للعامل الذي يعمل في مكان عملك ويقدّم لك فنجان قهوة. لعامل الديليفري الذي يوصل اليك طلبك من المطعم في فترة  الغداء، للكافيه الذي تجلس فيه أنت ورفاقك يوميًا.لأي فرد يقوم بأي عمل، تشكره بعد انتهاء عمله بعبارة "خلّي الباقي عشانك" بالرغم من حصوله على أجر الخدمة التي قام بها. حتى في المنزل، صرت تغري أخيك الأصغر بقليل منها! وأيضًا، للذي يحمل حقائبك في المطار حيث يعتبر العاملون في المطار اللبناني، السوّاح عمومًا، والخليجيون خصوصاً، غنيمة قيمة تعود بالعملة الخضراء بعد حمل حقائبهم وتوديعهم إلى سيارة الأجرة.

في المطاعم والمقاهي يوجد صندوق مخصص للبقشيش أو ما يسمى "صندوق Tips ". وتتنوع سياسات المطاعم في التعامل مع إكراميات الزبائن للنُدل. منهم من يذهب إلى تقسيم الاكرامية على الموظفين، بينما تقضي سياسة أخرى باحتفاظ الادراة بها لنفسها، في وقت يحدّد مدراء آخرون للنادل راتبًا صغيرًا على أن يحتفظ بالاكراميات التي يحصل عليها لنفسه. وبالرغم من أن المطاعم تحتسب ضمن الفاتورة ضريبة على الخدمة، الا أن من لم يترك بخشيشًا يتم تصنيفه من قبل النُدل "بالبخيل".

في أمريكا هناك عرف واضح  يقضي بدفع  من 20 إلى 30 ٪ من قيمة الفاتورة كإكرامية

حسام يدفع الاكرامية لكل من يقدم له الخدمة. حسام "خواجة". يدفع 5 آلاف ليرة بالحد الأقصى لكل من الناطور، وعامل غسل السيارات طبعًا، إن كانت الخدمة جيدة. أما لناطور البناية فإضافة إلى الاكرامية التي يضيفها بشكل تصاعدي في آخر كل شهر، يقوم بمنحه Tips لقاء كل خدمة. يوقن حسام أن "هذه الإكرامية لن تجعل مني شخصًا غنيًا أو فقيرًا، مع أن أشخاص ينتمون للطبقة الغنية لا يدفعون الإكرامية. بيد أني أقوم بهذا من أجل فعل الخير. أما علي الذي سبق وأن عمل كنادل في أحد المطاعم، يدرك جيدًا أهمية ترك إكرامية وماذا يعني أن تكون سخيًا خلال منحها. لذلك يدفع البقشيش للنادل الذي يخدم هذه الطاولة وليس للمشرف على العاملين. ويرى علي أن هناك مهنًا ترتكز على الاكرامية في بلاد مختلفة من العالم. ففي أمريكا مثلاً هناك عرف واضح يقضي بدفع من 20 إلى 30 ٪ من قيمة الفاتورة كإكرامية للمطعم. وفي فرنسا، تصل إلى 10%.

حسين، الذي كان يعمل نادلاً في أحد المطاعم، براتب 300 دولار أمريكي شهريًا وهو راتب زهيد نسبةً إلى الحد الأدنى للأجور في لبنان، إلا أن إدراة المقهى في مقابل الراتب القليل، تسمح لحسين بالاحتفاظ بالاكرامية التي يحصّلها من خلال خدمة زبائنه. وتشترط السياسة المتبعة من إدارة المطعم على حسين دفع 500 ليرة لبنانية عن كل طاولة يخدمها. فإذا خدم 10 طاولات يدفع لادارة المحل الذي يعمل به 5 آلاف ليرة لبنانية كنبسة للمطعم لقاء السماح له بالاحتفاظ بكامل البقشيش. يقول حسين أن "هناك زبائن كانوا يضعون مبلغًاً كبيرًا بينما يمتنع آخرون عن منح الإكرامية. في وقت يعمد زبائن إلى حركات مستفزة. مرة ترك لي زبون 250 ليرة لبنانية، وآخر ترك سيجارة. كل ذلك يعود إلى طبيعة الزبون".اذاً الإكرامية تعتبر جزءًا لا يتجزء من الراتب الشهري يُترك للموظف بالاعتماد على شطارته في العمل بتحصيل مبلغ لا يُستهان به. بالإضافة إلى أن مكان العمل والمنطقة الموجود فيها تحددان مجموع البقشيش. خلال عمل محمود في إحدى المطاعم الفاخرة، والتي يقصدها أناس أغنياء كان يجمع مبلغًا يصل إلى  500 دولارًا أمريكيًا في الأسبوع.

كان محمود يجمع مبلغًا يصل إلى  500 دولارًا أمريكيًا في الأسبوع

كلما دفعت أكثر كلما تحسّنت مستوى خدمتك.ليست المصيبة أنك تدفع ثمنًا إضافيًا على خدمة قد سبق وقد دفعت كلفتها فقط، بل إن أصحاب المؤسسات يتواطؤون على المواطن لتوفير ما يمكن توفيره عبر دفع راتب صغير، وإذا أراد المال عليه بالاستفادة من ذكائه في الحصول على الإكرامية.  أما المصيبة الكبرى، تكمن في المؤسسات الرسمية التي تسهّل عمل  أفراد لا صفة رسمية لهم، والتغاضي عن استغلال تواجدهم داخل المؤسسات الرسمية في أعمال غير قانونية. إذ يسعى هؤلاء السماسرة إلى استغلال المواطنين اللبنانيين مستعملين علاقاتهم الشخصية مع موظفي الإدارات الرسمية. فيقومون بتلقي "إكراميات" من المواطنين تحت عنوان تسهيل عمل الطرفين، وإن لم تدفع هذه الإكرامية، يُترك لك طرق أبواب الموظفين الذين يطلبون بدورهم "إكرامية أو حلوينة" أعلى.

إقرأ/ي أيضًا: نوستالجيا في مدينة الخامسة صباحًا