ألتراصوت-فريق التحرير
في 31 كانون الثاني/يناير 1990، تم افتتاح أول فرع لسلسلة مطاعم ماكدونالدز الأمريكية في روسيا. وبعد 32 عامًا من توسّع السلسلة التي كانت أحد أبلغ رموز نهاية الحقبة السوفيتية في روسيا، أعلنت ماكدونالدز انسحابها من هناك، إيذانًا ربما ببدء حقبة جديدة عنوانها الأبرز هو ضبط السلوك الروسي قبل فوات الأوان، وتوجيه رسالة لأية قوّة عالمية صاعدة، بأن تجاوز الحدود، قد يكّلف عقوبات اقتصادية مؤلمة، وإغلاق مطعم يحبّه الملايين.
لم تتفاءل الصحافة الروسية يومها بمشهد الجموع وهم على عتبات ماكدونالدز، وعدد من المقالات تناول الظاهرة الجديدة بكثير من التحذيرات والتوقعات السوداوية لنهاية المطعم الوشيكة في العاصمة الروسية
لقد شكّل افتتاح مطعم ماكدونالدز الأول في موسكو مطلع التسعين لحظة فارقة في تاريخ المدينة، ولاسيما أنّ هذا الفرع الأول عند افتتاحه في ميدان "بوشكين" وسط موسكو، قد كان الفرع الأكبر للشركة في العالم بأسره.
تجمع المئات في محيط المطعم آنذاك، منتظرين الحصول على شطيرة بيرغر أمريكية وتذوقها للمرّة الأولى، بعد أن ظلت بعيدة المنال عن الروسي العادي على مدى عقود من الحرب الباردة بين المعسكر الغربي والشيوعي، ورغم الشهرة الواسعة للمطعم الذي بدأ بالانتشار في فروعه العالمية منذ ستينات القرن العشرين.
وقد وثقت الصور التي التقطت لفعاليات يوم افتتاح أول ماكدونالدز في روسيا، تلك الطوابير الطويلة التي انتظرت لساعات كي تنال فرصة تجربة الطعم الأمريكي السريع، في العاصمة موسكو، التي عرفت يومًا بأنها نقيض كلّ ما هو "سريع" في عالم الطعام. كما انضمّ إلى حشود المنتظرين عدد من الفنانين والممثلين الروس، والذين شاركوا في الحفل الافتتاحي للمطعم. وبحسب بعض التقديرات، فقد بلغ عدد أول الحاضرين في طوابير الانتظار قرابة خمسة آلاف روسي، وبيعت مع نهاية ذلك اليوم أكثر من 30 ألف وجبة، وهو رقم قياسي في تاريخ ماكدونالدز.
ميخائيل نيغيلكو، عامل روسي في أحد المصانع، كان من أوائل من نالوا فرصة تجربة الطعم الجديد في ماكدونالدز ذلك اليوم، ووقف بعد خروجه من المطعم والبيرغر المقضوم منه لقمة في يده اليمنى، وقال لجموع المحتشدين في الميدان وبحماسة بالغة إنه قد حظي بتجربة "طعمٍ شهيٍّ من المستقبل". ومن بعيد، نادت عليه امرأة عجوز، قائلة له: "أخبرنا، ما هو هذا البييغ ماك؟" وهي تنظر شزرًا إلى صفوف الشباب المنتظرين بلهفة ليحلّ دورهم لتذوّق هذا الطعم من العالم الجديد.
فقال الشاب: "إنه بولشوي ماك، يا رفاق"، وهو يحمل بيده الأخرى كأس الكولا الكرتوني وبعض المناديل البيضاء. "بولشوي ماك، هو بيرغر لم تتذوقوا مثله من قبل أبدًا. شطيرة في داخلها لحم مشوي فاخر، فاخر جدًا وليس كاللحم الذي نأكله هنا، وفوقه بعض شريحة جبن، والكثير الكثير من الفيتامينات و..". ثم توقّف الشاب هنيهة وكأنّه ما يزال يحاول استيعاب الطعم الغريب الذي تستقبله حليمات التذوق في لسانه ويحاول دماغه تفسيرها. هذا هو إذن طعم الرأسمالية، يقول نيغليكو في نفسه، ثم يتابع خطبته الشارحة للتجربة الأولى لبيرغر الماك: "وفوق الجبن يضعون الخس.. الروس عامة لا يأكلون الخس، وكثير منهم لم يروه من قبل".
استمّرت محاولات شركة ماكدونالدز للدخول إلى السوق الروسية زهاء 14 عامًا، قبل أن تصل إلى بلاد الشيوعية العلمية، في خطوة فيها تكثيف هائل للكثير من التحوّلات الكبرى في العالم، وضعت الشركة الكبرى للوجبات السريعة، في مواجهة الدولة الأكبر حجمًا في العالم، والتي كانت باتحادها السوفيتي قطبًا منافسًا للولايات المتحدة الأمريكية. أمّا مقدم ماكدونالدز بالتحديد إلى روسيا، فهو بذاته وبعيدًا عن أية حمولة سياسيّة، يعدّ تحوّلا ضخمًا، في دولة كان الانطباع السائد حول مطاعمها أنّها باهتة وبطيئة الخدمة وعديمة النظافة، حتى أن حجز طاولة في مطعم جيّد للروسي العادي يعدّ بذاته إنجازًا.
أمّا ماكدونالدز، القادم من الولايات المتحدة، فقد منح شيئًا من اللون والحياة في ذلك الجزء من موسكو، في ميدان بوشكين الشهير، والذي كان أول بقعة من الأرض الروسية تحتضن رمزًا فاقع الدلالة على هويّته الغربية الرأسمالية، في عقر دار الشيوعية. وحتّى الإعلان الذي ظهر على شاشة القناة الجديدة في الاتحاد، صدح بالحقيقة المرّة التي حاولت روسيا دفعها وطمسها: "إن لم تستطع الذهاب إلى أمريكا، فتعال إلى ماكدونالدز في موسكو". وبالنظر إلى الحشود التي قدمت من أرجاء المدينة في يوم افتتاح المطعم، بدا جليًا أنهم قد لبّوا الدعوة.
كان الوقت المقرر للافتتاح الرسمي للمطعم الساعة العاشرة من صباح الأول من شباط/فبراير 1990. انتظر الزوّار دورهم في طابور طويل امتدّ مسافة نصف كم، وتوزّع على طوله أفراد من الأمن الروسي لمنع حدوث أي تدافع أو فوضى. تجمعت وسائل الإعلام، وبدأت فعالياتٌ صاخبة من الرقص والموسيقى، في حين انشغل الموظفون الروس في المطعم في إزالة الثلج المتراكم حول المطعم. تململ الناس قليلًا وهم ينتظرون تجربة الدبل بيرغر، والبطاطس المقلية، مع الكاتشب والمايونيز. لكن لا مانع من الانتظار، بحسب ما نقلت الواشنطن بوست في تقريرها ذلك اليوم عن أحد الزبائن، واسمه فيكتور كوندراتيف، والذي قال: "نحن متعودون على الانتظار في طوابير طويلة، لساعات بطولها أحيانًا، بل وربما لأيام لو اضطرنا الأمر. لقد اعتدنا على هذا".
ثمة زبونة أخرى تحدثت إلى مراسل البوست، واسمها لينا كالاشوفا، وقالت له: "لدينا فضول بكل ما هو أمريكي. لقد أتينا هنا لأننا نظنّ أنها ستكون تجربة لا تنسى". وآخر راح يفسّر سبب اهتمامه بتجربة المطعم الأمريكي، قائلًا إنّ العثور على مطعم مناسب في موسكو يعدّ من أكبر التحدّيات في المدينة. وأضاف: "هذا المكان يبدو مختلفًا حتى من الخارج، فكل شيء يبدو نظيفًا وناصعًا".
أمّا على البوابة الرئيسية للمطعم، فوقف جورج كوهون، صاحب الوجه الباسم، والمسؤول عن شبكة مطاعم ماكدونالدز في كندا، والعقل المدبّر لافتتاح المشروع في موسكو، والذي أصرّ على أن يكون الأكبر في العالم، وأن يكون مثالًا لأكثر من 20 فرعًا جديدًا آخر وضعت خطّة لافتتاحها في غضون سنوات في موسكو.
قرّر كوهون أن يقبل الروبل الروسي فقط في فرع ماكدونالدز عند افتتاحه، وكأنّه رغب في نقل رسالة إلى الروس المحليين بأن هذا المطعم يخدم أهل المدينة، لا من فيها من أجانب وزوّار يستخدمون العملات الصعبة، كما هو سائد في الكثير من المطاعم الغربية في المدينة. أمّا العين الأخرى لكوهون، فكانت متجهة نحو الأرباح الهائلة التي يمكن تحصيلها من العمل في روسيا، والاستفادة من المحاصيل الرخيصة في تصنيع المواد التي تحتاجها فروعها الجديدة حول العالم، ولاسيما في دول أوروبا الغربية.
لكنّ البيرغر في ماكدونالدز لم يكن رخيصًا في ذلك الحين، مقارنة بمتوسط الأجور في روسيا في تلك السنوات. فسعر الشطيرة الصغيرة الواحدة كان 3.85 روبل، وهو متوسط ما يجنيه العامل الروسي العادي من أجر ساعتين ونصف الساعة من العمل. أما نظيره الأمريكي، فسيعمل أقل من 20 دقيقة ليكسب ما يعادل ثمن شطيرة البيرغر الكبيرة من ماكدونالدز، البيغ ماك، حسب متوسط الأجور وأسعار الوجبات في ماكدونالدز مطلع العام 1990.
لم تتفاءل الصحافة الروسية يومها بمشهد الجموع وهم على عتبات ماكدونالدز، وعدد من المقالات تناول الظاهرة الجديدة بكثير من التحذيرات والتوقعات السوداوية لنهاية المطعم الوشيكة في العاصمة الروسية، متوقعين أن يقتحم الناس قريبًا المطعم ويجبروا أصحابه على المغادرة إلى الأبد، أو أن تقع إدارة المطعم في مصيدة الفساد الذي سيأكل من إيراداتها ويرغمها على الرحيل. وفي أحد المقالات التي علقت على افتتاح المطعم، توقع ستانيسلاف كوندراشيف، وهو صحفي روسي عريق مختص بالسياسات الخارجية، أن لا يتجاوز عمر المطعم في روسيا ستة شهور على الأكثر، راسمًا سيناريو عجيبًا، حيث يضطر الأمريكيون إلى الرحيل منه هربًا عبر السطح، على متن مروحيّة كبيرة، وكأنّه يذكّر بمشهد الدبلوماسيين الأمريكيين الذين فرّوا باللحظات الأخيرة من فوق سطح السفارة الأمريكية في سايغون الفيتنامية عام 1975. فالأمريكيون في نظر كوندراشيف غزاة، لم يأتوا على متن دبّابة هذه المرّة، بل عبر شطيرة بيرغر شهيّة.
ما حصل في غضون ثلاثين عامًا منذ افتتاح أول فرع لماكدونالدز في روسيا قد رسم حكاية أخرى للوضع العالمي الراهن ودور الشركات الرأسمالية الكبرى فيه
ما حصل في غضون ثلاثين عامًا منذ افتتاح أول فرع لماكدونالدز في روسيا قد رسم حكاية أخرى للوضع العالمي الراهن ودور الشركات الرأسمالية الكبرى فيه. فقد توسّعت شبكة المطاعم في روسيا حتى بلغ عدد فروعها حوالي 850 فرعًا يعمل فيها أكثر من 62,000 موظف وموظفة. أما مصيرها، فآل إلى الإغلاق، لكن ليس على النحو الذي توقّعه كوندراشيف. فقد قررت الشركة توقيف أعمالها في روسيا، ضمن سلسلة من العقوبات الاقتصادية التي تهدف إلى زعزعة الاقتصاد الروسي، والضغط على الكرملين من أجل وقف عملياتها العسكرية على الأراضي الأوكرانية. ولم تكن ماكدونالدز وحدها في ذلك، بل انضمّت إلى عشرات الشركات الكبرى التي سبقتها إلى ذلك، مثل آبل ومايكروسوفت وجوجل وبوينغ وماسترد كارد وفيزا وفورد، والتي لا يُعرف للآن على نحو واضح، مدى الضرر الذي سيحدثه ذلك على الاقتصاد الروسي على المدى المتوسط أو البعيد.