22-أغسطس-2016

(Getty) تمثال الملك سرجون

تاريخُ البشر تاريخٌ أقرب ما يمكّننا من فهمه، تشبيهه بـ"دولاب الهامستر" ذلك الدولاب الذي يلهو بالدوران عليه ذلك الفأر الجميل القارض مدمر حقول الذرة والحبوب، كذلك تاريخ البشر لا يزال يدور ويتكرر بذات صراعاته وبؤر توتره في رحلة السيطرة المدمرة لمنابع الثروات، وربما بذات تحالفاته الدولية التي يتغير تموضعها بتغير المصالح والمطامح.

سار المحتلون والمستعمرون على نهج جغرافية الملك سرجون الأكادي، وكانت بوصلتهم للسيطرة على العالم

لم يؤسس الملك الأكادي العظيم شيروكين "سرجون" في رحلة تتبع طموحه وجموحه للسلطة، أول إمبراطورية بتاريخ البشر فحسب، بل أسس أيضًا لأن تكون السيطرة على جغرافية إمبراطورية هي القاعدة التي ستنطلق منها أي حضارة ناشئة لإثبات "فحولتها" في رحلة سيطرتها على الحضارات الأخرى، لقد غير سرجون فكرة السيطرة البشرية على الجغرافيا، فقد أسس قاعدة إمبراطورية من العراق اليوم وانطلق إلى شمال سوريا، وصولًا إلى الأناضول في تركيا وحتى ساحل المتوسط، وامتد نفوذه إلى سلطنة عمان في الخليج العربي، وحتى بلاد السند؛ باكتسان اليوم.

اقرأ/ي أيضًا: إيلان بابيه يفضح "فكرة إسرائيل"

متتبع خريطة السيطرة سيجدها تتكرر إلى اليوم مع كل حضارة ناشئة، وكأن هذا الطموح الشخصي صار لعنة على الديمغرافية التي تسكن جغرافيا اللعنات هذه، فقط لنتابع الخارطة التي سار عليها كل المستعمرين عبر التاريخ، وصولًا إلى الاستعمار الحديث لنجد أن جغرافية الملك شيروكين هي بوصلتهم للسيطرة على العالم.

في منتصف القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد (2350 ق.م) تمكن الملك الأكادي شيروكين من بسط سيطرته على بلاد سومر في عراق اليوم، وجعل من مدينة آكاد التي تتوسط مدن سومر عاصمة له، مستفيدًا من علاقاته القبلية الموثوق فيها وخوفًا من غدر السومريين في حال جعل إحدى مدنها الكبرى مركزًا له. يقول شيروكين في أحد النقوش التي تعود إلى العصر الآشوري الحديث (القرن السابع قبل الميلاد): "سُدتُ على ذوي الرؤوس السوداء وحكمتهم. خرّبت جبالًا قوية بوساطة بلطات برونزية. صعدت الجبال العالية وعبرت الجبال السفلى. حاصرت بلاد البحر (القسم المطل على الخليج العربي من بلاد الرافدين) ثلاث مرات. فتحت يدي دلمون (البحرين)".

إن أسباب انتصار شاروكين على لوغال زاغيري ملك سلالة أوروك الثالثة (نحو 2375-2350 ق.م) تكمن في استخدام الأكاديين أسلحة جديدة لم تكن معروفة للسومريين، كالقوس والنشاب، والحراب والسيوف القصيرة، وفي اتباعهم تكتيكًا جديدًا في الحرب، يعتمد على المحارب كعنصر مرن الحركة، بدلًا من الاعتماد على الكتل المتراصة من الجنود كما كان سائدًا عند السومريين.

وكأيّ أسطورة تعكس الرغبة بإخفاء الأصل المظلم للرجال العظماء والمشهورين، لإضفاء صبغة القداسة والشرعية عليهم، تتحدث أسطورة ولادة شيروكين التي تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، أي بعد قرون من وجوده يقول فيها: "أنا شيروكين القوي ملك أكاد. كانت أمي كبيرة كاهنات، ولم أعرف أبي. أحب إخوة أبي (أعمامي) الجبال. مدينتي هي أزوبيرانو (الزعفران) التي كانت تقع على ضفاف الفرات. حملت بي أمي كبيرة الكاهنات، وولدتني سرًا، ثم وضعتني في سلة من القصب وأغلت بابها بالقار، ورمتني في النهر الذي حملني إلى أكِّي رافع الماء (البستاني) الذي انتشلني. أكي البستاني جعلني ابنه وربّاني. أكي علمني مهنة البستنة. عندما كنت بستانيًا أحبّتني عشتار (إلهة الخصب والحب والحرب). سُدْتُ على ذوي الرؤوس السوداء (السومريين) وحكمتهم".

أسطورة ولادة سرجون الأكادي تذكرنا بقصة ولادة الأبطال الذين أسّسوا إمبراطوريات العالم القديم

اقرأ/ي أيضًا: كيم إكلين: الناس يؤكدون أنفسهم عبر رواية القصص

أسطورة ولادة شيروكين تذكرنا بقصة ولادة الأبطال الذين أسّسوا إمبراطوريات العالم القديم، لا بل يمكن القول إن أسطورة ولادة مؤسس أقدم إمبراطورية في التاريخ أصبح صدى لمؤسسي الإمبراطواريات اللاحقة، وأبطال الكثير من الشعوب، فهي ذاتها قصة ميلاد موسى الواردة في الكتب الدينية، وبأسطورة ريموس ورومولوس مؤسس مدينة روما، وأسطورة قورش الثاني مؤسس الإمبراطورية الفارسية الإخمينية. أي أن شيروكين هذا الإمبراطور لم يصغ فقط جغرافيا الصراعات الأبدية بين الحضارات الناشئة، بل صاغ أيضا بأسطورته أساطير كل الأبطال والأنبياء.

بعدها قام شيروكين "سرجون الأكادي" بتوسيع نفوذه ليشمل سوريا، الغنية بالمواد الطبيعة المختلفة، وذات الموقع الجغرافي المميز، تذكر إحد كتابات شاروكين قيامه بحملة عسكرية وصل فيها إلى شمالي سوريا وساحل البحر المتوسط مرورا بماري وإيبلا، إذ يقول فيها: "شيروكين الملك خرّ خاشعًا في توتول (تل البيعة الحالي بالقرب من الرقة) أمام الإله داجان وصلى. الأرض العليا أعطاها إياه داجان: ماري (تل الحريري بالقرب من البوكمال)، يرموتي، إبلا (تل مرديخ بالقرب من إدلب)، حتى غابة الأرز وجبال الفضة".

والمقصود بغابة الأرز جبال الأمانوس، التي كانت غنية بأشجار الأرز، وبجبال الفضة جبال طوروس التي اشتهرت بوجود مناجم الفضة فيها.

وهنا نص أدبي كتب في عصر لاحق بعنوان: "شار تمخاري" (ملك المعارك) يتحدث عن قيام شيروكين بحملات عسكرية إلى الأناضول. يبدو أن هذا النص كتب للتذكير بحملاته الحقيقية إلى تلك المنطقة التي كانت تهدف إلى حماية المصالح الأكادية هناك، لكنها لم تؤد إلى سيطرة تامة عليها. قام أيضا شاروكين بحملات أخرى باتجاه الجنوب الشرقي في بلاد الرافدين، أي ضد بلاد عيلام، العدو التقليدي لبلاد الرافدين، وباتجاه الشمال الشرقي ضد القبائل اللولوبية التي كانت تسكن مناطق جبال زاغروس الجبلية، كما قام بالسيطرة على سوبارتو (آشور). وهكذا استطاع شيروكين أن يقيم إمبراطورية واسعة شملت جميع مناطق بلاد الرافدين وشمالي سوريا وأجزاء من بلاد الأناضول وعيلام.

لم يصغ سرجون الأكادي جغرافيا الصراعات الأبدية، بل صاغ أيضًا أساطير ولادة الأبطال

اقرأ/ي أيضًا: إيلوثيريا رابعة

أنشأ شيروكين في أكاد لتنشيط التجارة مع المناطق البعيدة عبر الخليج العربي. يقول في إحدى كتاباته: "شاروكين هو ملك كيش، خاض أربعًا وثلاثين معركة انتصر فيها، ودمّر أسوارًا حتى شاطئ البحر، وجعل سفنًا من ميلوخا (منطقة وادي السند باكستان حاليًا وفيها ازدهرت حضارة خَرابا وموهينجودارو ما بين 2500-1700 ق.م)، وسفنًا من ماجان (سلطنة عُمان الحالية والمنطقة البرية المواجهة لها في إيران)، وسفنا من دلمون (جزيرة البحرين)، ترسو في ميناء أكاد.

ملاحظة:
المعلومات التاريخية الواردة في هذا المقال مأخوذة "بتصرف" عن كتاب: اللسان الأكادي ـ أ. د عيد مرعي، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق 2012.

اقرأ/ي أيضًا:

فكرة توفيق الحكيم وأسلوب نجيب محفوظ

قريش جاءت من سوريا