15-أغسطس-2020

ساعة متوقفة عند وقت كارثة المرفأ في بيروت (Getty)

الانفجار، السحابة التي رافقتهُ، الدمار الذي خلّفهُ، آثاره النفسية التي طالت شعبًا برمّته، ووصلت ارتداداتها إلى شعوبٍ أخرى أثارت الحادثة مخاوفها، بالإضافة إلى المشهد الأخير للمدينة المنكوبة بمستشفياتها المُزدحمة بما خلّفهُ من مُصابين وضحايا، وأخيرًا عمليات الإخلاء والإجلاء التي تمّت على وقع رعب أرخى بظلاله على المدينة وسكّانها لساعاتٍ طويلة. مثل هذه المشاهد هي أوّل ما يُستعاد عند الحديث أو الكتابة عن انفجار مرفأ مدينة بيروت الذي نقلها من مكانٍ إلى آخر مختلف تمامًا، ووضعها في مواجهة واقعها الجديد الذي كان أعلى من أي معرفة وفوق كلّ تصوّر أيضًا بالنسبة إلى سكّانها الذين دخلوا أزمة جديدة هي أزمة التعامل مع هذه الكارثة/ الحادثة.

تشكل الفواجع عملية ولادة زمنٍ جديد يفرز إنسانًا جديدًا يشغلهُ البحث عن إجاباتٍ لأسئلةٍ تولدُ من أسئلةٍ سبقتها، ولكنّ أكثر ما سيكون واضحًا أمامه هو الخوف والتيه فقط

لخّصت الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش (1948) أزمة الإنسان في تعامله مع الكارثة/ الفاجعة في سؤالها: "ما الذي نقدر نحن على إدراكه؟ هل بمقدورنا الوصول إلى المغزى الكامن في هذا الرعب غير المعروف لنا من قبل ووعيه تمامًا؟". يُمكن التعامل مع هذا السؤال باعتباره خلاصة للجدل الذي يدور بين الإنسان وتصوّراته عن نفسه من جهة، وعن العالم من جهةٍ أخرى، خصوصًا في الفترة ما بين حصول الكارثة وبداية الحديث عنها وصولًا إلى لمسه لنتائجها وما خلّفته ورائها أيضًا، بالإضافة إلى أنّه السؤال الذي ستنطلق منه أو تبنى عليه غالبية الأعمال الأدبية التي ستتناول هذه الحادثة خلال السنوات القليلة القادمة.

اقرأ/ي أيضًا: "إن كان بدك تعشق".. ثقافة الأطراف على طاولة فواز طرابلسي

الكارثة التي طالت العاصمة اللبنانية ليست الأولى، ولكنّها الأكثر غرابة حتمًا، فالمدينة التي أحالتها الحرب الأهلية (1975-1990) إلى ساحة معارك واسعة قطّعت أوصالها ومزّقتها جغرافيًا، لم تألف من قبل "القفز" إلى كلّ هذا الخراب خلال مدّة زمنية قصيرة لا تتجاوز الدقيقة الواحدة، ولكنّها كانت كافية لإيقاظ الوعي عند الفرد إلى تلك الدرجة التي وضعتهُ في مواجهة التيه والعبث وسؤال: ماذا حدث؟ ليست عملية انتقال فائقة السرعة من مرحلة استشعار الخطر إلى مرحلة لمسه ومُحاولة فهمه، وإنّما عملية ولادة زمنٍ جديد أفرز إنسانًا جديدًا يشغلهُ البحث عن إجاباتٍ لأسئلةٍ تولدُ من أسئلةٍ سبقتها، ولكنّ أكثر ما سيكون واضحًا أمامه هو الخوف والتيه فقط. أو، بكلمةٍ أخرى: الفاجعة.

هذا بالضبط ما بيَّنتهُ سفيتلانا أليكسييفيتش في كتابها "صلاة تشرنوبل" (نقله أحمد صلاح الدين إلى العربية وأصدرته "مصر العربية/ مكتبة أطياف سنة 2016) إذ أعادت فيه تفكيك حكاية انفجار مفاعل تشرنوبل النوويّ سنة 1986، وإعادة بنائها انطلاقًا ممّا أُسقط من هذه الحكاية عمدًا: أصوات الناجين وذوي الضحايا. ليُمكن القول هنا إنّ هذه التفاصيل، أي أزمة الفرد في تعامله مع المأساة التي تمخّض عنها زمن جديد أفرز بدوره إنسانًا جديدًا يبحث عن المغزى الكامن في الرعب الذي عايشه دون أن يكون مألوفًا له من قبل، على اختلافها واختلاف طبيعة المكان وظروفه أيضًا؛ هي التفاصيل التي تلتقي عندها حادثة انفجار المُفاعل في تشرنوبل، وانفجار شحنة نترات الأمونيوم في مرفأ العاصمة اللبنانية، الأمر الذي يجعل من استعادة كتاب أليكسييفيتش هنا أمرًا طبيعيًا باعتبارها استعادة لمأساة على وقع مأساة أخرى. 

أعادت الصحافية البيلاروسية رسم خريطة جديدة لكارثة تشرنوبل، وذلك من خلال أسلوبٍ جعل من كتابها منصّة لأولئك المهمّشين الذين خذلهم التاريخ الرسميّ وحركته المُتسارعة التي لا تلحظ، غالبًا، هذه الفئة المهمّشة من البشر التي أُهمِلت وغيِّبت لأنّها بمثابة القطعة الناقصة من الحكاية التي لا يُراد لها أن تكتمل. ولهذا السبب، دُفعت باتّجاه أكثر الأمكنة هامشية، تلك التي لا يصل إليها إلّا من أدرك بأنّ القطعة الناقصة من القصّة تكمن في ما تختزنهُ ذاكرة هذه الفئة التي تمثّل الناجين من الكارثة وذوي ضحاياها من حكاياتٍ لا مكان فيها للبطولة المُصطنعة، وإنّما للحقيقة التي تُجيب على أسئلةٍ عديدة يُمكن جمعها في سؤال واحد: ماذا حلّ بإنسان تشرنوبل بعد الانفجار؟

 انطلاقًا من هذا السؤال أعلاه، بدأت صاحبة "فتيان الزنك" بجمع شهادات شيّدت من خلالها عمارتها السردية التي أخذت بعين الاعتبار أنّ ما يعنيها بالدرجة الأولى هو التفاصيل التي تبدو عادية ومبتذلة. لكنّها ليست كذلك لأنّها ليست نتيجة حدثٍ عاديّ في النهاية، وإنّما نتيجة حادثة هي الأولى من نوعها عالميًا. الكاتبة التي دخلت نادي "نوبل للآداب" عام 2015، بسّطت الأمر أكثر حينما وصفت الإنسان الذي تروي قصّته بـ "إنسان تشرنوبل"، والغاية من هذه التسمية تمييزه عن بقية البشر، والقول بأنّ أحلامه وهواجسه وخيباته وآلامه ليست عادية، وإنّما بشكلٍ أو بآخر؛ مُشعِّة.

إذا كانت الكارثة هي الدمار الذي خلّفه انفجار نترات أمونيوم أو مُفاعل نووي، فإنّ الفاجعة هي أعداد الضحايا وأحوال ذويهم المفجوعين بهم أيضًا

إذًا، ما يعني سفيتلانا أليكسييفيتش هو الإنسان الذي شكّلته حادثة "تشرنوبل"، وطواه التاريخ الذي كان مُغفلًا تمامًا حينما وصلت إليه صاحبة "نهاية الإنسان الأحمر" وأعادته إلى المتن مُجدّدًا واضعةً من خلاله الروس وشعوب دول المنظومة السوفييتية في مواجهة حقائق صادمة وشهادات حسّاسة لم يكونوا مُستعدّين لها لشدّة قسوتها التي يُمكن اختزالها بالجملة التالية: "فشلوا في بسطه على جسده، لم يكن الجسد مُكتملًا، صار بأكمله جرحًا حيًّا يقطر منه الدم. في اليومين الأخيرين بالمستشفى، أرفع يده، تتدحرج عظامه، تسبح، فقد زال الجلد عنها خرجت من فمه جزئيات من الرئة والكبد، سدّت محتويات جسده مجاري نفسه، ألفّ يدي في شاش وأدسّها في فمه، وأستخرج كلّ هذا من فمه".

اقرأ/ي أيضًا: 6 تجارب روائية.. الهامش والتاريخ والفرد وهمومه الصغيرة

القسوة التي سيكون القارئ على موعدٍ معها في "صلاة تشرنوبل" لا تكشف فقط هول المأساة، وإنّما مدى الكذب الذي مارستهُ آلة الدعاية السوفييتية بعد الحادثة التي خلّفت أعدادًا هائلة من المصابين بالأمراض السرطانية، والتخلّف العقليّ، والاضطّرابات النفسية والعصبية بالإضافة إلى المُتغيّرات الجينية المُفاجئة والمُفجعة، عدا عن المساحات الهائلة التي باتت غير صالحة للسكن إلى أجلٍ غير مسمّى. يقول أحد الناجين في شهادته: "لم نفهم ما شاهدناه، لكن فلتبق شهادتنا تلك، قد يقرؤها أحد ويفهمها في ما بعد، من يأتون بعدنا". 

"المصير هو حياة إنسان واحد، أمّا التاريخ فهو حياتنا جميعًا، وأنا أريد أن أروي التاريخ بشكلٍ لا يضيع فيه عن بصريّ مصير إنسان واحد". من خلال هذه الجملة، لخّصت مؤلّفة "آخر الشهود" مشروعها الأدبيّ متراميّ الأطراف، وبيّنت ما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار عند صناعة عمل أدبيّ يتناول فاجعةٍ ما. تمامًا كما هو الحال بالنسبة إلى الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ التي شيّدت انطلاقًا من هذه الجُملة أساسات روايتها "أفعال بشرية" (نقلها محمد نجيب إلى العربية، وصدرت عن "دار التنوير" 2020) التي اتّخذت من مجزرة/ فاجعة غوانغجو موضوعًا لها.

ما العلاقة التي تربط انفجار نترات الأمونيوم في مرفأ مدينة بيروت، وانفجار المفاعل النوويّ في مدينة تشرنوبل، بالمذبحة التي شهدتها مدينة غوانغجو سنة 1980؟ الجواب ببساطة هو: الفاجعة؛ ما تتشاركهُ هذه الأحداث الثلاثة هي الفاجعة التي تتجاوز بالنسبة للفرد للبشريّ الكارثة لاعتبارات مُختلفة، أهمّها أنّها متّصلة به، أو بجملةٍ أخرى، تُصيبه مُباشرةً عند فقده لأحدٍ ما. فإذا كانت الكارثة هي الدمار الذي خلّفه انفجار نترات أمونيوم أو مُفاعل نووي، فإنّ الفاجعة هي أعداد الضحايا وأحوال ذويهم المفجوعين بهم أيضًا.

والفاجعة ذاتها هي ما تتناولهُ كانغ في روايتها هذه التي أعادت إلى الواجهة مذبحة تُعدّ جزءًا من سلسلة حوادث طويلة شكّلت في نهاية المطاف التاريخ السياسيّ والإنسانيّ لكوريا الجنوبية. ومن خلال الفاجعة نفسها، تُخضع صاحبة "النباتية" الزمن الذي جرت به إلى مُحاكمة حسّاسة لا تتوانى عن الاستهزاء بفكرة الوطن التقليديّ الذي يستدعي التضحية فقط: "لماذا تنشدون النشيد الوطنيّ من أجل أشخاص قتلهم الجيش؟ لماذا نُغطّي التوابيت بالتايجوكي؟ كما لو لم يكن الوطن نفسه من قتلهم؟".

ما يبقى من الكارثة للأبد هو: الفاجعة

الاستهزاء بفكرة الوطن التقليديّ لا يُمكن التعامل معه هنا إلّا بصفته استهزاءً بالسلطة التي قابلت الاحتجاجات الشعبية ضدّها بعنفٍ نتج عنهُ مذبحة راح ضحيتها أكثر من 606 قتيلًا خلال ساعاتٍ قليلة. "كان صوت النحيب يكاد يسمع وسط زئير الحشود"، يقول الراوي في وصفه لما حدث في الدقائق الأولى للمذبحة التي يستعيدها أثناء معاينته للجثث المكدّسة في صالة يقصدها كلّ من يعتقد أنّ أحد أفراد عائلته أو أصدقائه قد انتهى به الحال داخلها، مجرّد جثّة مجهولة تنتظر من يتعرّف عليها، دون أن تكون عملية التعرّف ذاتها سهلة، إذ "حتّى بين تلك الجثث هناك تباين في درجة الفظاعة".

الفظاعة نفسها ليست إلّا عملية تشويه لملامح الجثّة التي تعرّضت لعملية تنكيل وحشية: "مسحت الفتاة بزي المدرسة وجه رجل شاب مزّقت حربة حنجرته وبرزت لها حلقه الحمراء إلى الخارج". وفي مشهدٍ أشدّ قسوّة: "كانت أون سوك كثيرًا ما تضطّر للتوقّف عمّا تفعله، والركض خارج القاعة لتتقيّأ حين تُحاول حشر كتلة لزجة من أمعاء تبرز خارج الجسم إلى داخل تجويف البطن الممزّقة". 

المشاهد أعلاه، بالإضافة إلى المشاهد المذكورة آنفًا والمأخوذة من كتاب "صلاة تشرنوبل" ليست إلّا جزء من الفاجعة التي تبدأ بعد نهاية الكارثة. إنّها امتداد لها، تبدأ حينما تهدأ الأولى ويصير واضحًا للعيان ما خلّفته، الأمر الذي يجعل من عملية الوصول إلى جوهر الاختلاف بينهما ليس بالمهمّة العسيرة، فالكارثة – إن كانت انفجار شحنة نترات أمونيوم في مدينة بيروت، أو مفاعل نووي في تشرنوبل، أو مذبحة تقليدية في حلب وإدلب، أو كيماوية في مدينة خان شيخون والغوطة الشرقية لمدينة دمشق، بالإضافة إلى مجازر نلّ الزعتر وصبرا وشاتيلا وملجأ العامرية وغيرها – تبدأ وتنتهي لحظة حدوثها، أمّا الفاجعة، فهي ما يبقى منها؛ ما يبقى من الكارثة، للأبد، هو: الفاجعة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إيلينا فيرانتي وقوة صداقات الإناث

جنازة غوغ