17-ديسمبر-2016

متظاهرة في عمان (فيسبوك)

كلّ ما أتمنّى للعام القادم، والتمنّي هو ما يعبّر عنه العرب بـ"ليت" ليدلّ على ما هو مستحيل أو صعب التحقق، هو أن نلتقط الأنفاس قليلًا ونتنفّس الصعداء كي نحاول (على الأقل) أن نهضم شيئًا ممّا وقع علينا من مصيبات في العام "الفارط".

هذا العام "رقم آخر يسقط من تقويم الأيّام" كما قال حيدر محمود. وأنا بالمناسبة (واعذرني من الآن على الاستطراد) أحبّ كلمة "الفارط" هذه كثيرًا. يستخدمها بعض أهل المغرب بمعنى السابق، ففرَط في لسان العرب يأتي بمعنى سبق وتقدّم، كما جاء في الحديث الشريف "أنا فرَطُكم على الحوض" أي سابقكم ومتقدّمكم. ولكن في الفرط أيضًا معنى الظلم والبغي، ومن ذلك ما جاء في القرآن الكريم في معرض حديث النبيّ موسى وهارون عن فرعون: "إنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى"، وفيه معنى السفاهة وقلّة القدر والقيمة "وكان أمره فُرُطا". وفي المحكيّ من العامّي الفصيح نقول "فرَط فلان" بمعنى مات، وفرط العقد وانفرط أي تفرّق وتبدّد.

ما مر في 2016 من أمور غريبات، تحتاج إلى رواة ومحدثين ينسجون حولها المقامات والحكايات ويحدثون بأمرها لمن سيأتي من أجيال

والحديث عن فرط وما يشتق منها وما تجلب من معانٍ عجيبات أمرٌ يطول (اعذرني عزيزي القارئ على هذه السماجة)، ولكنّ كل سماجتي هذه لن تفي عُشر ما مرّ في هذه السنة الفارطة من أمور غريبات تحتاج إلى رواة ومحدّثين ينسجون حولها المقامات والحكايات ويحدّثون بأمرها لمن سيأتي من أجيال، هذا إن لم يفرط الله نسلنا أو نسل أعدائنا فيما هو مقبل علينا من ليال وأيام.

اقرأ/ي أيضًا: شبكة "شي موريس": الاتجار بالنساء في لبنان الفاسد

وقد كنت في منصرم الأيام مقيمًا في إسطنبول، وأدرّس العربيّة لمن طلبها من القوم، وبعضهم أحرَصُ على منطقِنا منّا، فيفرّقون على الأقل بين همزات القطع والوصل، وقد دعاني لترك تلك البلاد ما لقيته منها من عنت وحيرة من بعض الترك والعرب لا يسع الحديث عنه هنا، ورجعت قافلًا إلى بلادي. وقد ظننت أنّي سأجد فيها ما أشتهي من راحة وحبور، ولكنّي ما إن تنقلت بين إذاعات ما يسمّونه "الراديو"، وكان تعليمي للعربيّة قد ثقّف لساني ونفّرني من كل دخيل على لغتي المبجّلة، حتّى وقعت على عجب عُجاب، يفقد الصواب ويحيّر الألباب.

لقد وجدت من دون هؤلاء المذيعين من يتحدّث على الأثير عن موضوع، فهمت منه أنّه جليل الخطر. وهذا الموضوع يا قارئي العزيز هو: "حماية المرأة على وسائل التواصل الاجتماعيّ"، (نعم ما مرّت عليه عينك للتوّ صحيح وليس من نسج الخيال) وقد فهمت ممّا دار في حديث ينتقل عبر هذا الأثير، أنّ الحكومة -بعدما فشلت في التعديل على قانونٍ يخفف العقوبة على المغتصب (حاشاكم الله) إن هو تزوّج ضحيّته- قد طلبت من وسائل الإعلام فيها زيادة الوعي بشأن المرأة، فهذا أقلّ الواجب، والمتحدّثون والحمد لله في هذه البلاد كثر.

فركنت سيّارتي في جانب الطريق كي أصيغ السمع لذلكم الحديث الغرائبي (سامحني عزيزي القارئ مرّة أخرى، أعرف أنّ كلمة غرائبي هذه قد باتت خرائيّة لفرط ما استخدمها الروائيون في بلدك). فقال أحد المختصّين بحماية المرأة على وسائل التواصل الاجتماعي (نعم، صار لدينا شرَطة ومطوّعة على "الفيس بوك"): "لازم البنت ما تقبل طلبات صداقة على الفيس بوك من أي شاب (إلا من المحارم)، ولا بنت غريبة" وتابع يوجّه الكلام للشباب أن يحرصوا على تنبيه "حريمهم" بهذا الشأن.

والسبب في رأي هذا الفطحل أنّه من الممكن أن يسرق أحدهم صور أختك/أمّك/زوجتك ويجري عليها تحويلات فاضحة باستخدام البرمجيّات الحديثة، ثم يأتي إليك ليبتزّك، وعليك حينها (وأنقل كلامه بالحرف): "أن تدفع لهم لتنجو بنفسك من هذا الموقف المخزي" (كذا)!

اقرأ/ي أيضًا: لماذا يسمح بالإجهاض في تونس؟

بلغ بي العجب ممّا قاله الرجل مبلغًا كبيرًا أشعل فيّ مرارةً في الصدر وفجّر أخرى في الكبد، حاولت أن أتّصل بالبرنامج مرارًا كي أوضّح للرجل "المختص" خلطه وطيشه في الكلام، غير أنّ المعجبين والمعجبات من الجمهور كانوا كثرة غالبة، فانهزمت وتابعت طريقي حتى وصلت إلى بيتي لا ألوي على شيء.

لا تزال المرأة تختزل في مجتمعاتنا بحديث البيت والزواج، والآن صارت "الموضة" في الحديث عن خطر الفيس بوك على "بنات العرب والمسلمين"

لا أدري حقًّا ما الذي سيأتي به العام المقبل وما سيجّره علينا من حوادث، ولكن لا تزال المرأة تختزل حتّى الآن في مجتمعاتنا بحديث البيت والزواج، وحديث اللباس وطول التنّانير أو قصرها، والآن صارت "الموضة" في الحديث عن خطر الفيس بوك الداهم على "بنات العرب والمسلمين". فندغدغ مشاعر البعض ونرفع "ضغط" الآخرين، ونحن مع ذلك كلّه نشهد في كلّ سنة في الأردنّ زيادة في جرائم "الشرف" وإمعانًا على مستوى المؤسسات الرسميّة والخاصّة والشعبيّة في ظلم وتهميش المرأة، وعودة بالمجتمع كلّه إلى مربّعات أكثر ضيقًا وأشدّ خطرًا وحساسية.

ثم يأتي الإعلام، مع كلّ أسىً، ليزيد الطين بلّة ويفاقم الأمر بخطاب محافظ مبتور الأصل، يكثّف موضوع الجنس في المرأة، فلا يعدو الحديث عنها تلك الكليشيهات الفارغة التي لا تنفع المرأة ولا المجتمع في شيء.

ولأنّي لا أريد أن يفهم من العنوان الذي صدّرت به تدوينتي هذه أنّ الحالة عقيمة بأمثلة عظيمة وناجحة لفتيات وسيّدات حققن الكثير في العام المنصرم في الأردنّ، وتلقين كذلك دعمًا من بعض الجهات الرسميّة والخاصّة. وقد تكون حالة المرأة في الأردن أفضل من سواها في بلدان عربيّة أخرى، إلا أنّ الطريق طويل، ولا يصحّ أن يختصره إعلاميّ فهيم أو شيخ جهبذ أو رفيق متحمّس في القشور من القضايا والظواهر.

اقرأ/ي أيضًا:
10 أحكام مميّزة لدستور العائلة التونسية
تشارلز بوكوفسكي.. الكتابة بالجسد