15-يونيو-2023
تقرير رويترز

صدر عن معهد رويترز، التقرير السنوي للصحافة الرقمية للعام 2023، بالتعاون مع جامعة أكسفورد. هذا التقرير مؤشّرٌ ضخم يكشف بالاعتماد على استطلاع أجري بين كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير من العام الجاري، عن توجهات الصحافة الرقمية المعاصرة، واستهلاكها، وما تواجهه هذه الصنعة من عقبات وأسئلة كبرى، كما يقدم إجمالًا عن الفرص وأبرز البرامج والابتكارات الناشئة من داخل عالم الصحافة ومن خارجه، في نحو 46 دولة موزعة حول المعمورة حيثما تصل الشبكة. 

يتخلل نسخة هذا العام من التقرير، والتي صدرت يوم أمس الأربعاء، 14 حزيران/يونيو، تخوّف عام يشي بأن العالم بات أقرب إلى حقبة "ما بعد الأخبار" وما بعد الاعتماد على وسائط الأخبار التقليدية لتحصيل معرفةٍ موضوعية حول ما يجري في عالم الأفراد ومن حولهم، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والرياضة والتقنية وسواها، ولاسيما بين أجيال جديدة نشأت بالاعتماد الكليّ على وسائل التواصل الاجتماعي، وترى في المؤثرين والمؤثرات، لا الصحفيين والصحفيات، مصادر أولية للأخبار والمعلومات، ومرجعًا لتحديد كيفية التعاطي معها.

بودكاست مسموعة

يُعنى تقرير رويترز للعام 2023 بهذا التحوّل الرقمي المتواصل واتجاهاته، ويرصد الانزياح المستمر نحو أشكال أكثر تشاركية في صناعة المحتوى، بعيدًا عن التأثير الباهت لوسائل الإعلام التقليدية، رغم تنازلاتها المتواصلة ورغبتها في التكيّف واستثمارها في كل شكلٍ جديد ناشئ من المنصّات، وما تجريه من تعديلات على مقارباتها التواصليّة ابتغاء جذب قطاعات أوسع من الجمهور، ولاسيما الشباب. يحدث ذلك كلّه ضمن بيئة إعلامية مهتزّة مضطربة، على المستوى الصحفي، وعلى مستوى نماذج العمل، مع تراجع الثقة بالفاعلين الكبار في الصنعة في مختلف المناطق التي عني بها التقرير، أي في 46 دولة في ستة من قارات العالم. 

من الملاحظات البارزة التي تضمنها تقرير رويترز للصحافة الرقمية لهذا العام، تقلصّ حضور منصات التواصل الاجتماعي "التقليدية" مثل فيسبوك، باعتبارها منصّات مؤثّرة أو منخرطة بشكل فاعل في تحديد أنماط استهلاك الأخبار والتفاعل معها. في المقابل، رصد التقرير صعودًا في حضور منصّات محتوى الفيديو، مثل تيك توك ويوتيوب، على حساب فيسبوك. مثل هذه التغيّرات البنيوية في بيئة استهلاك الأخبار والعناصر الفاعلة بها، وتبعات ذلك على أشكال المحتوى الصحفي وما يصل منها إلى الجمهور وكيفية وصوله، يعزوها التقرير إلى عوامل متعدّدة، من ضمنها الأزمات العالمية الكبرى في الآونة الأخيرة، مثل جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية والحرب الدائرة في أوكرانيا، دون إغفال دور وسائل التواصل الاجتماعي الكبرى في توجيه هذا التغيّر، إذ تعدّ هذه المنصّات الميدان الأساسيّ لخطاب سياسي وشعبوي رائج يناهض الصحافة التقليدية ويقف ندًّا دائم التشكيك والتعريض بها، وما يرافق ذلك عادة من ترويج للمعلومات المغلوطة والمضللة، هذا عدا عمّا بدا أنه تغيّر في إستراتيجية شركة "ميتا"/فيسبوك في التعامل مع الأخبار، رغم استمرار كونها واحدة من أكبر المنصّات على مستوى عدد المستخدمين النشطين. 

ومع ذلك، فإن الكلمة الأخيرة تظل لهذه المنصّات. فوفق التقرير الناجم عن استطلاع شارك فيه زهاء 90 ألف شخص ونفّذ عبر الإنترنت في أول شهرين من العام، فإن 22 بالمئة فقط من المستطلعة آراؤهم أفادوا بأنهم يعمدون بشكل مباشر إلى مواقع أو تطبيقات الأخبار، وهو تراجع بواقع 10 نقاط عن نتائج الاستطلاع ذاته في العام 2018. وهؤلاء هم غالبًا من الفئة العمرية الأعلى من المستطلعين، ذلك أنه لم تتشكل لدى الفئات الأصغر سنًا أية علاقة مباشرة مع مؤسسات الأخبار ومواقعها وتطبيقاتها، وإنما يتعرضون لها أثناء تصفح حساباتهم على منصات التواصل الاجتماعي، أو عبر بحثهم عن مواضيع بعينها في محركات البحث. اللافت هنا هو أنه وعلى الرغم من الانطباع السلبيّ العام لدى المستطلعة آراؤهم بشأن خوارزميات البحث وأثرها التحيّزي على ما يصلهم من معلومات وأخبار ومبالغة في شخصنتها (أي اختيارها للأخبار بما يلائم سلوك وهوية المستخدم)، فإن التقرير يرى أن الاعتماد على هذه المنصّات كوسيط بين المستهلك ومنتجي الأخبار لن يتلاشى قريبًا، بل سيستمر بالتصاعد. 

فالغالبية الساحقة من المستطلعة آراؤهم ممن هم تحت الخامسة والثلاثين يعتمدون على منصات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث لمعرفة الأخبار ومتابعتها، ويرسم التقرير بحسب البيانات المتوفّرة اتجاهًا من تزايد الاعتماد عليها وعلى منصّات شبيهة أخرى قائمة على الخوارزميات، نظرًا إلى أن الوصول المباشر للأخبار بلا وسيط هو سلوك بات ينحصر ببقيّة من كبار السنّ أو فئة محدودة من المستخدمين المعنيين بالأخبار، وهو ما يعني أن الخيارات أمام رواد الإنترنت ستكون إجمالًا محصورة بين خيارين إشكاليين:

الأول هو الاستسلام لتفضيلات الخوارزميات وما تزودنا به من أخبار على منصات التواصل الاجتماعي أو محركات البحث وغيرها من الوسائط، بناء على بياناتنا وسلوكنا الرقميّ وتحليل ما نستهلكه ونبحث عنه. أما الخيار الثاني فهو أن ندع ذلك للصحفيين والمحررين واختياراتهم. ووفق الاستطلاع، فإن مستهلكي الأخبار، رغم تخوفهم من الخوارزميات وألاعيبها، يفضلونها على الخيار الثاني، أي على التدخّل البشري. ولعلّ هذه واحدة من أكثر النتائج إثارة للجدل في تقرير هذا العام، لما تتضمّنه من تقاطع مع بعض سمات الخطاب الشعبوي السائد، المواظب على التعريض بالصحفيين والطعن في مصداقيتهم، وادّعاء أن العامة لم تعد تثق بهم.  فهذا لم يعد مجرّد ادّعاء اعتباطي على لسان ترامب أو سعيّد أو غيرهما من السياسيين، بل صار رأيًا مدعومًا بتقرير استطلاعي وأكاديمي ضخم، صادر عن واحدة من أهم المؤسسات الصحفية في العالم وأكثرها مصداقية مهنيّة، يتسق مع ما يدعوه التقرير "التشكّك المعمّم"، أي حالة التردّد إزاء عمليات اختبار الأخبار وفلترتها، سواء من قبل البشر أو من قبل الآلة، مع تفضيل للآلة على مخترعها. 

ينسحب هذا الاتجاه في التقرير أيضًا على مؤشّر الثقة العامة بالأخبار في مختلف الدول المشمولة بالاستطلاع، حيث تم تسجيل تراجع بنسبة 2 بالمئة على هذا المستوى مقارنة بنتائج العام الماضي، مع نسبة عليا مسجّلة بين 69 بالمئة من المستطلعين في فنلندا (الدولة الأولى على مؤشر السعادة العالمي)، ونسبة دنيا مسجّلة في اليونان، لا تتجاوز 19 بالمئة بين المشاركين في الاستطلاع، في ظل تراجع مستمر في تلك البلاد في مؤشرات حرية الصحافة والتضييق على الصحفيين وتراجع حضور المشاريع الصحفية المستقلة.

يلمّح التقرير هنا إلى وجود مناخٍ من كراهية الصحافة، كما يقرّ بنشأة اتجاهات اعتزالية للأخبار والصوم عنها بمختلف أشكالها، ولاسيما تلك القادمة من المصادر التقليدية، أي التلفاز والصحف المطبوعة، ومن دون تعويض لذلك الفاقد الإخباري عبر وسائل أخرى غير تقليدية، كوسائل التواصل الاجتماعي أو تطبيقات تجميع الأخبار، ودون أن يكون للحرب في أوكرانيا تأثير على عكس هذا الاتّجاه، بخلاف التكهّنات التي سادت العام الماضي. فأقل من 48 بالمئة من المستطلعين عبّروا عن اهتمام جدّي بالأخبار، مقارنة بنسبة تزيد عن 60 بالمئة في النسخ الأقدم من التقرير. من جهة أخرى، تتزايد نسبة من عبّروا بوضوح عن قرارهم بالتجنّب الكامل لمواد الأخبار، أو لأشكال محدّدة منها، كالأخبار العاجلة والتغطيات للتطورات الراهنة، علمًا أن نسبة من هؤلاء عبروا عن اهتمام أكبر بما يدعى "صحافة الحلول" أو الأنماط المعمّقة من الصحافة،حتى بشكلها المكتوب.

صحافة البودكاست

أما صحافة البودكاست الإخبارية، فما تزال رغم التبشير المتفائل بنموّها، تشكّل نشاطًا ثانويًا في معظم الدول المستطلعة في التقرير. فمن بين 34 بالمئة من المشاركين الذين يستمعون إلى بودكاست واحد على الأقل شهريًا، لم تتجاوز نسبة من يتابعون البودكاست بحثًا عن الأخبار سوى 12 بالمئة. كما رصد التقرير تزايدًا ملحوظًا في برامج البودكاست "الهجينة" واستهلاكها، وهي تلك التي تعتمد على الفيديو ويجري استهلاكها على منصّات التواصل الاجتماعي، مع الاستثمار الواضح بالصحفيين "النجوم" في هذا الصدد. 

وهكذا يتراجع تقرير هذا العام عن التوقعات المبالغ بتفاؤلها بشأن البودكاست، حيث ما تزال مساحة المجهول في هذا القطاع أوسع من المعروف عنه عالميًا، أي على مستوى ما يجري استهلاكه من البرامج في مختلف الدول ومن يستمع إليها أو مستوى تأثيرها والرضا عنها والتفاعل معها. ويعزو التقرير ذلك إلى عدم توفر ما يكفي من البيانات الموثوقة، ولاسيما أن استهلاك ما يدخل ضمن مفهوم البودكاست يحصل على منصات عديدة، من آبل وجوجل بودكاست مرورًا بسبوتيفاي وانتهاء بساوند كلاود ويوتيوب، وهو ما يحول دون تشكيل صورة واضحة عامّة واحدة عن اتجاهات البودكاست في العالم اليوم.

رغم ذلك، ثمة انطباعات عامة تسندها البيانات الناجمة عن الاستطلاع، حول الفئات الأكثر استهلاكًا للبودكاست، وهم من ذوي الدخل والتعليم الجيدين عادة، وهي معلومات ذات أهمية كبيرة للناشرين والمعلنين في السياقات التي ينمو فيها استهلاك البودكاست ضمن نماذج أعمال ربحيّة، إضافة إلى كون أغلب المستمعين من الشباب، وهو نمط يتناسب مع نشاطاتهم المختلفة، أثناء التنقل أو ممارسة الرياضة أو حتى أثناء التواجد في المنزل والانشغال مثلًا بالتنظيف أو الترتيب، وهي الأوقات التي سجّل المشاركون في الاستبيان أنهم يفضلون استغلالها للاستماع لبرنامج البودكاست التي تعنيهم. 

البودكاست
تقرير رويترز للصحافة الرقمية 2023 

يجدر التنويه هنا إلى أن التقرير قد سجّل نمطًا من استهلاك البودكاست شبيهًا بالأنماط الأوسع انتشارًا عربيًا في الآونة الأخيرة، حيث يفضّل المستمعون عبر الدول التي استهدفها تقرير رويترز تلك البرامج الحوارية المطوّلة والمسترسلة، والتي تكون بمعدل ثلاث ساعات وأكثر، وباتت شائعة بين منتجي البودكاست في المنطقة العربية، ولاسيما في بعض دول الخليج العربي، كالسعودية والكويت، إضافة إلى برامج شبيهة من لبنان والأردن وغيرها. يشير التقرير كذلك إلى استمرار نموّ الزخم حول بعض التجارب في برامج البودكاست الإخبارية، خاصة تلك التي تنتجها كبريات المؤسسات الإعلامية، وفي مقدمتها برنامج "ذا ديلي"، والذي يعدّ برنامج البودكاست الأكثر شعبية من إنتاج نيويورك تايمز، إضافة إلى نشوء نمط جديد من البودكاسات الإخبارية السريعة، مثل برنامج "في 100 ثانية" من الإذاعة الألمانية، أو برنامج "5 أخبار من سي أن أن"، وهي برامج ذات مسموعيّة عالية في الفترات الصباحية في ألمانيا والولايات المتحدة. 

450 مليون عربي.. خارج التغطية

يمثل مشهد الصحافة الرقمية لغزًا كبيرًا، يسعى تقرير رويترز السنوي للاقتراب خطوة من فهمه، ويدعي أنه يسهم في تشكيل صورة عامّة عنه عالميًا، وهو ادعاء عريض، نظرًا لوجود فجوات هائلة في البيانات التي يعتمدها التقرير وتساؤلات مشروعة حول طريقة جمعها، تفتح الباب مشرعًا للتشكيك في جدّية المؤسسة القائمة عليه في مواجهة هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي وشركات التقنية الكبرى، مثل جوجل، وهي إحدى الشركات المموّلة للتقرير، هذا عدا عن التشكيك في قدرة التقرير عبر السنوات الماضية على تقديم حلول لمشاريع الصحافة المستقلة أو توفير ما يلزم للتصدي للتضليل الإعلامي الممنهج في العديد من الدول، ومدى مسؤولية الشركات التقنية الكبرى عن تقويض مكانة الصحافة في العالم اليوم. يضاف إلى ذلك ميل تقرير هذا العام إلى ترسيخ الانطباع حول تراجع الثقة بالصحافة وصانعيها، دون مراعاة لتبعات ذلك على الصحفيين، خاصة في الدول التي تنحسر فيها الديمقراطية.

يندرج ضمن هذه الانتقادات إخفاق التقرير في التعامل مع المنطقة العربية وتغطيتها منذ انطلاق أول نسخة منه عام 2012، إذ يستمر إهمال منطقة بالغة التأثير جيوسياسيًا، ومعظم سكّانها من الشباب، ويواجه الصحفيون والصحفيات فيها تشكيلة واسعة ومرعبة من التحديات. فالمنطقة مختبر حيّ للمنتجات الصحفية ولنموّ وسائل التواصل الاجتماعي وتفريخ المؤثرين، وهي فوق ذلك منطقة تتراجع تصنيفات الدول فيها على مؤشرات حرية الصحافة والحريات العامة، بل ويعد بعضها ضمن الأخطر على الإطلاق على سلامة الصحفيين، مثل سوريا واليمن والعراق، عداك عن دولة الاحتلال التي قتلت واغتالت أكثر من 55 صحفيًا وصحفية خلال العقد المنصرم فقط، أي منذ بدأ التقرير بالصدور.

زكي وزكية الصناعي

 

كل ذلك يخرج عن نطاق تغطية تقرير رويترز للصحافة الرقمية، والذي يصرّ على حصر استطلاعه عمليًا بعالم ناطق بالإنجليزية، رغم توزّع عينة الاستطلاع على ست قارات معمورة، مستفيدًا من هيمنة هذه اللغة وشيوعها بين الفئات الأكثر استخدامًا للشبكة. فنصف المستطلعين في أوروبا، وقد استمزج الاستطلاع آراءهم بنماذج باللغة الإنجليزية، أما البقية فموزعون على قارات العالم الأخرى، وبعينات بحثيّة متساوية، بنفس النموذج وبذات اللغة، كأنه يحاكي كتلة بحثية مركزيّة مثالية في بلد واحد، وهو ما يجعل التقرير يقصّر عن تقديم ما هو مقنع لفهم ديناميكيات العمل الصحفي في عالم اليوم، كما يقوّض من موثوقية التعميمات التي يمكن استنتاجها منه ويعوق القدرة على إسقاطها مثلًا على سياق عربي، وهو ما يؤثّر بالمحصّلة على مدى صلاحيتها في خدمة مهنة الصحافة بشكلها الرقمي، وخدمة قيمها الأساسية ووعودها الكبرى، أو ما بقي منها.