26-أبريل-2023
ساري حنفي

الأكاديمي الفلسطيني ساري حنفي (ألترا صوت)

ساري حنفي أكاديمي فلسطيني متخصص في السوسيولوجيا السياسية، وسوسيولوجيا المعرفة، وسوسيولوجيا الدين، وسوسيولوجيا الهجرة واللاجئين والعدالة الانتقالية. وهو أستاذ علم الاجتماع في "الجامعة الأمريكية" في بيروت، ومدير "مركز الدراسات العربية والشرق أوسطية" ورئيس "برنامج الدراسات الإسلامية" فيها.

يشغل حنفي منصب رئيس "الجمعية الدولية لعلم الاجتماع" منذ عام 2018. وقد عمل سابقًا رئيسًا لتحرير المجلة العربية لعلم الاجتماع "إضافات"، ومديرًا لـ "المركز الفلسطيني للاجئين والشتات – شمل" في رام الله، وأستاذًا زائرًا في جامعات "بواتييه" في فرنسا، و"بولونيا" و"رافينا" في إيطاليا، وباحثًا زائرًا في معهدي "كريستيان مكلسون – بيرغن" بالنرويج، و"الدوحة للدراسات العليا".

له دراسات وأبحاث كثيرة. ومن أبرز مؤلفاته: "عبور الحدود وتبدّل الحواجز: سوسيولوجيا العودة الفلسطينية" (تحرير، 2008)، و"حالة الاستثناء والمقاومة في الوطن العربي" (تحرير، 2010)، و"سلطة الإقصاء الشامل: تشريح الحكم الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة" (مع عدي أوفير وميخال غيفوني، تحرير/ 2012)، و"اللاجئون الفلسطينيون في المشرق العربي: الهوية والفضاء والمكان" (مع آري كنودسن، تحرير/ 2015)، و"علوم الشرع والعلوم الاجتماعية، نحو تجاوز القطيعة: أليس الصبح بقريب" (2021).

في هذا الحوار، يُجيب الأكاديمي الفلسطيني على مجموعة من التساؤلات حول قضايا ومواضيع مختلفة تشمل الاستبداد، وواقع المخيمات الفلسطينية في لبنان، والعلاقة بين الشتات والمركز الفلسطيني، وتداعيات اللجوء والهجرة على الواقع السياسي والديموغرافي في العالم العربي، والهوية، والدولة الوطنية، وغيرها.


  • ولدت في مخيم لجوء فلسطيني هو "مخيم اليرموك"، وحملت وعيًا مزدوجًا، كما أشرت في مقدمة كتابك "علوم الشرع والعلوم الاجتماعية"، ضد استبداد النظام السوري وضد المشروع الاستعماري الصهيوني. نود أن نعرف المزيد عن بدايات هذا الوعي المزدوج؟

دعني أبدأ بوعيي كفلسطيني بالحيف من مشروع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. فكوني نشأت في مخيم اليرموك، وفي عائلة تركت النكبة أثرًا عميقًا في ذاكرتها الحية، كنت أسمع قصص ما حصل من مآسي التهجير من أجدادي وأبويّ، وألمس أثر هذه النكبة في سلوكياتهم.

كان أبي سوداويًا ميلانكوليًا وكأن ساعته قد توقفت في لحظة النكبة عام 1948، إذ أصبحت حياته بعدها مجرد وقت زائد يقضيه بدون متعة. كان يعمل مدرّسًا في الصباح، وفي صيدلية عمي بعد الظهر وفي المساء حتى يقيت عائلته. وعند عودته في الساعة العاشرة مساءً إلى البيت لتناول عشائه، كان يطلب من والدتي ألا تسخّن له الأكل لأنه يأكل لسد جوعه وليس للمتعة.

ساري حنفي: اعتُبرت المخيمات الفلسطينية في لبنان "جزرًا أمنية"، وعوملت بوصفها فضاءات استثناء، ومختبرات تجريبية للسيطرة والمراقبة

وفي أجواء مخيم اليرموك، انتميت إلى منظمة فلسطينية – منذ كان عمري 15 سنة – تدربت فيها على حمل السلاح، ووعيت من خلالها سياسيًا على تحليل طبيعة المشروع الصهيوني. وكنت محظوظًا لأنني انتقلت في الصف الثامن إلى مدرسة "ابن خلدون"، وهي مدرسة ثانوية عريقة في دمشق، ولكنها خصصت صفّين للأوائل في صفوف الإعدادي من كل مدارس دمشق.

وهناك، تعرّفت على طيف واسع من الطلاب السوريين وكان بعضهم مسيّسًا. وعلى مقاعد الدراسة، صادقت الصديقين وضاح جابر وطلال مارتينوس، وكلاهما عانى فيما بعد من تجربة السجن في سجون النظام القمعي السوري، وهما ينتميان إلى اتجاهين مختلفين: الاتجاه الإسلامي، والاتجاه الماركسي.

ورغم أنني تربّيت في عائلة متدينة، إلا أنني كنت مدفوعًا بفضول فكري. فكنت، كلما كان معي بعض المال، أذهب وأشتري الكتب الماركسية واللينية الحمراء رخيصة الثمن من "مكتبة ميسلون" بجانب مدرسة ابن خلدون. ومن أوائل تلك الكتب التي قرأتها، أذكر كتاب ماو تسي تونغ عن تجربة الصين في تحقيق العدالة الاجتماعية.

تشكّل وعيي المزدوج في هذه الأجواء إذن، ثم تفاقم بعد انتهائي من البكالوريا سنة 1979، وهي السنة التي وقعت خلالها مجزرة مدرسة المدفعية في حلب، وبدأت فيها ردة الفعل الوحشية للنظام السوري على المعارضة، وقد بلغت أوجها بتدمير المدينة القديمة في حماة. أما في الجامعة، فقد كنت نشطًا سياسيًا، أحمل همَّي الشعبين الفلسطيني والسوري، وأنادي بوحدة النضال ضد الاستعمار والاستبداد.

  • عطفًا على ذلك، لا تزال هناك نماذج مؤيدة للاستبداد السوري، والعربي بطبيعة الحال (صدام حسين على وجه الخصوص)، تجد صدى وتجاوبًا في الواقع الفلسطيني، فما سبب ذلك؟ وكيف يمكن للمخيم الفلسطيني، المكان القائم على وعي الحرية والتحرر الوطني، أن يشكّل مساحة لانتشار أفكار تخص تأييد الاستبداد السياسي؟

دعني أتكلم أولًا، وبشكل عام، عن ظاهرة لمستها في المؤتمر الدولي ضد كافة أشكال العنصرية الذي عُقد بمدينة دربان بجنوب أفريقيا عام 1999، وحضرته الكثير من منظمات حقوق الإنسان. شعرت هناك بوجود إشكالية كبيرة متمثلة في تمركز الضحية على ذاتها وعدم رؤيتها لآلام الضحايا الآخرين، الأمر الذي يُضعف النضال الإقليمي والكوني والعالمي لإنهاء كل أشكال الحيف الاستعماري والاستبدادي والاجتماعي.  

ومع الأسف، وقع الفلسطينيون في إشكالية التمركز الذاتي، وقد ظهر ذلك أولًا بمناصرة "منظمة التحرير الفلسطينية" لصدام حسين عند غزوه للكويت، ثم في تأييدها للنظام السوري وهو في أوج قمعه لشعبه بداية ثمانينيات القرن الماضي. وباستثناء حركة حماس، فإن الفصائل الفلسطينية استمرت في تأييد الاستبداد، أو الصمت في أحسن الأحوال، تحت دعوة الحياد. ومع ذلك، تتسم الحركة اليوم بموقف ملتبس من نضال الشعب السوري ضد الاستبداد. وإن كنت أتفهم وجود ضغوط شديدة يمارسها النظام الإيراني على هذا الفصيل، فإنني لا أتفهم أن يتم التعبير عن عودة العلاقات مع النظام السوري بحرارة جرحت مشاعر الكثير من السوريين. لذلك أعتقد أن تضامن حركات التحرر مع بعضها البعض، بمعنى النظر إلى كل القضايا التي تتعلق بالعدالة الاجتماعية والسياسية وإنهاء الاستعمار بنفس العين وبنفس المنطق، هو امتحان كبير لهذه الحركات.

لقد كتبت سابقًا عن التأثير القاتل للتحليل الماوي الذي تطرحه بعض قوى اليسار حول التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي الذي يحقّب له في مراحل كبرى: ضد الخارج الإمبريالي ثورة وطنية، وضد المرحلة ما قبل الرأسمالية ثورة ديمقراطية، وضد السيطرة الرأسمالية ثورة اشتراكية. وتشكّل هذه الحقب النظرة الاستراتيجية لما هو رئيسي وما هو ثانوي.

المشكلة في هذا الطرح هو التحنط في التاريخ، وإضفاء ماهيات على هذه الحقب الكبرى، كما لو أنه علينا اعتبار الصراع مع الكيان الصهيوني والإمبريالية العالمية الصراع الرئيسي منذ عام 1948، و"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، حتى لو كان النظام "التقدّمي المقاوم" في سوريا دمويًا يستخدم التعذيب ضد المعارضين السياسيين حتى الموت. وكما لو أن على الشعب اللبناني تحمّل فساد "المقاومين"، أو على الأقل تغطية هؤلاء على فساد حلفائهم، تحت اسم التناقض الرئيسي مع الإمبرالية.  

ساري حنفي: يتم التعاطي مع مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان بوصفها فضاءات استثناء واستبعاد تحتاج للمراقبة

وفي حواراتي مع بعض الزملاء في أمريكا اللاتينية عن الانقلاب العسكري على رئيس بوليفيا المخلوع إيفو موراليس، ذكرت لبعض اليساريين الموتورين أن إدانة الانقلاب وحدها لا تكفي، بل يجب أيضًا إدانة رفض موراليس نتائج الاستفتاء حول إلغاء تحديد عدد المرّات التي يحق له بها الترشّح للانتخابات. وسبق أن انقسم اليسار اللاتيني أيضًا بشأن الوضع في فنزويلا بعد استئثار الرئيس نيكولاس مادورو بالسلطة على شاكلة سلفه هوغو تشافيز.

وفي كلا الوضعين، في بوليفيا وفنزويلا، يبقى السؤال: لماذا لم يُعدّ موراليس ومادرور رجلًا ثانيًا في حزبيهما للترشح بدلًا منهما عندما تنتهي ولايتهما؟ لماذا الاستئثار بالسلطة وشخصنتها في أحزاب كثيرة تتقدّمها الأحزاب اليسارية؟ يُسأل السؤال نفسه لهذه الأنظمة "التقدمية" في كل من سوريا واليمن، وكذا إلى الأحزاب التي يجري توارث زعامتها. في السياق نفسه، لماذا لا تكون هناك إمكانية للمقاومة في ظل أنظمة ديمقراطية؟

الإشكال الرئيسي إذًا ليس في التنظير لما هو التناقض الرئيسي والثانوي، وإنما في آليات سلطة بائدة كتب عنها ابن خلدون، وبعده ماكس فيبر، بأنها تعتمد على الكاريزما و/ أو العصبية القبلية/ العائلية بدلًا من الشرعية القانونية، أي الانتخاب من الشعب وتداول السلطة في إطار المواطنة والحريات الأساسية. لماذا يريد "المقاومون" في لبنان اعتبار التناقض الرئيسي هو تحرير القدس بينما إنهاء نظام المحاصصة الطائفية، وإعطاء المرأة اللبنانية حقها بمنح جنسيتها إلى أبنائها، وإعطاء اللاجئين الفلسطينيين الحقوق الأساسية، مثل حق العمل والتملك.. إلخ، تناقضات ثانوية يجب تأجيلها؟ كل هذه التناقضات مهمة، ولكن الملحّ فيها اليوم ليس هو الملحّ البارحة، والملحّ هنا هو ليس أكثر من مهم فقط هناك.

  • في كتاب "اللاجئون الفلسطينيون في المشرق العربي"، تحدثت عن ثلاثة نماذج تحكم المخيمات الفلسطينية: النموذج السوري الذي حوّل المخيم لمكان طبيعي، والنموذج اللبناني الذي حوّله إلى مكان مهمّش وملغى، ثم شكّل نموذجًا ثالثًا هو نموذج المراقبة والسيطرة الذي ينتمي إلى العصور الوسطى. اليوم، بعد كل ما أصاب اللاجئين الفلسطينيين، خصوصًا في سوريا، ما هو النموذج الرابع الذي سيكون عليه المخيم الفلسطيني الجديد؟

نعم، لقد قضيت حوالي 15 سنة في تناول موضوعات تتعلق باللاجئين الفلسطينيين والشتات الفلسطيني، مركّزًا على إشكالية حضرية (Urban) لها علاقة بالبؤس الحضري أو العمراني في المخيمات الفلسطينية في مختلف دول الشتات، وخاصةً في لبنان، حيث ثمة إشكالية رئيسية لا تتعلق فقط بتهميش المخيم وتحويله إلى فضاء للاستثناء من كافة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وإنما بحرمانه من الحقوق الحضرية وبالتالي غياب حق ابن المخيم في المدينة. وهذا ما كتب فيه كثيرًا الفيلسوف الفرنسي هينري لوفيفر في كتابه "Right to the City" حول حق الفرد في المدينة.

لم تعد تُرى مسألة إدارة المخيمات من الزاوية الأمنية فقط، وإنما من زاوية العزل والفصل (Segregation). إذ أصبح العزل أو الفصل مفهومًا مركزيًا في النقاشات حول التركيز المكاني للخطر الاجتماعي، وحول الإدارة المحلية/ الحضرية. وأجادل هنا بأنه بينما اتخذت السلطات السورية قرارًا استراتيجيًا بدمج المخيمات الفلسطينية في نسيج المدن المحيطة بها، منذ عام 1948، فعل لبنان العكس تمامًا، واعتُبرت المخيمات فيه "جُزرًا أمنيّة"، وجرى التعامل معها بوصفها فضاءات استثناء، ومختبرات تجريبية للسيطرة والمراقبة.

ومن أجل فهم حضور ومستقبل نموذج الإدارة في لبنان، استعنت بكتاب ميشيل فوكو "المراقبة والعقاب" الذي يتحدث فيه عن نوعين من السلطة، التي برزت بين القرن السابع عشر ونهاية القرن الثامن عشر ردًا على علاج المصابين بالجذام والطاعون. كان يتم علاج الجذام من خلال منطق الفصل/ العزل، والاستبعاد/ الإقصاء (Exclusion) والاحتجاز(Confinement)، حيث كان يتم طرد المصابين به من المدينة واحتجازهم في مستعمرات، عبر قوانين وقواعد معينة، يجري فيها تحويلهم إلى أشخاص غير مرئيين من خلال "منفى مسيّج"، ثم يُتركون للموت وسط مجموعات لا جدوى من التمييز فيما بينها.

على العكس من ذلك، أدى الطاعون، بوصفه مرضًا معديًا ينتشر ويقتل الناس بسرعة، إلى ظهور إجراءات واستجابات مختلفة ومبنية على التقسم المكاني (Spatial Partitioning)، أي الفصل المتعدد والعلاج الفردي. كانت الأحياء والشوارع والمساكن تحت ملاحظة ومراقبة وسيطرة دقيقة، وكان على كل مواطن أن يتقدم للتفتيش أمام مفتشين. وقد ساعد هذا التقسيم (segmentation) في نشوء السياسات الحيوية (bio-politics)، إذ تساعد الاحصاءات الحكومات في تحسين تقنيات السيطرة والمراقبة.

فصل المصابين بالجذام والتقسيم المتّبع لعلاج المصابين بالطاعون هي ممارسات من العصور الوسطى، لكنها مستمرة للأسف بوصفها طريقة للتعامل مع السكان "غير المرغوب فيهم". إذ يتم التعاطي مع مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان بوصفها فضاءات تحتاج للمراقبة، وفضاءات استثناء واستبعاد. ولذلك يتم حكم وتقسيم وإدارة منطقة المخيمات عبر الحصاد الشديد.

ونموذج الإدارة الجديد الذي يرتكز على حكم المخيم بواسطة شرطة مكافحة التمرد والشغب، ما هو إلا طريقة لمعاملة المخيم كمدينة من العصور الوسطى مصابة بالطاعون. هنا تصبح الإدارة طريقة للانتقال من حالة مدينة مصابة بالجذام، حيث يجب على المصابين أن يكونوا غير مرئيين، إلى حالة مرئية بشدة (State of Hyper-Visibility)، بحيث يصبح كل فرد مشتبهًا به، فيتم تسجيله لدى دخوله، ومراقبته أثناء وجوده داخل المخيم.


بعض مؤلفات ساري حنفي

أما كيف أتمنى أن تكون عليه أحوال مخيمات الفلسطينيين في لبنان وغيرها من الدول، فهو ما أسميه التطبيع الحضري والاستثنائية السياسية: أي أن يصبح المخيم مكانًا إنسانيًا يعيش فيه الفلسطيني حياة كريمة مثله مثل أي حي في المدينة. وفي الوقت نفسه، أن يتم الحفاظ على الخصوصية السياسية لهذا المكان ليبق شعلة للنضال والمقاومة ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. فأنا أرفض اختزال قضية حقوق اللاجئين إلى حق العودة الذي هو حق هام جدًا، ذلك أنني دائمًا ما كنت أعتبر أن الحقوق المدنية الاجتماعية والاقتصادية للاجئين في مجتمع الاستقبال شيء هام وملح يجب الاهتمام به.

  • في كتابك "هنا وهناك: نحو تحليل العلاقة بين الشتات الفلسطيني والمركز"، طرحت إشكالية العلاقات الاجتماعية بين الشتات والمركز الفلسطيني. الآن، بعد أكثر من عشرين سنة على صدور الكتاب، وبعد شتات فلسطينيي سوريا الجديد، هل لا تزال تتمسك بمقولاتك ذاتها؟

أولًا أنا لا أعتقد بأن البطولة تكمن في نظر الباحث لتحليلاته بوصفها تحليلات صالحة إلى يومنا هذا. بل، وعلى العكس، أعتقد أنها تكمن في تغيير نظرتنا لحياتنا ومجتمعنا لسبب بسيط هو أن الحياة والمجتمع هما أيضًا في صيرورة تغيّر مستمر. وعلى ضوء ذلك، أستغرب قراءة ما حصل في السياق الفلسطيني أو العربي في بداية التسعينيات من القرن الماضي بفعل رجعي، حيث كانت هناك فرصة لحل ما للصراع العربي الإسرائيلي، ولو كان ذلك لا يحقق كل معايير العدالة للفلسطينيين.

نعم كانت هناك ديناميات سلمية، وخاصةً في فترة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين، لأن يكون هناك حل ما. وفي هذا السياق، كان لا بد من أن أقوم بدراساتي للتفكير في إمكانية تقديم الشتات الفلسطيني العون للكينونة الفلسطينية الناشئة على جزء من أراضي فلسطين، أي الضفة الغربية وغزة، مثلي مثل الكثير من الباحثين الفلسطينيين المتفائلين آنذاك بإمكانية أن تتحول الأراضي الفلسطينية إلى مكان قابل للحياة. ومع ذلك، كان الأمر بالنسبة لي مسألة مرحلية بانتظار حل الدولة الواحدة التي يعيش فيها كل من يسكنها، بغض النظر عن ديانتهم، في ظل دولة علمانية تميّز الديني عن السياسي، وتؤمّن حيادية الدولة تجاه كل مواطنيها. وطبعًا بعد جبر الضرر الذي لحق باللاجئين الفلسطينيين منذ نكبة 1948، بما في ذلك حقهم بالعودة أو اختيار المكان الذي سيحقق لهم المواطنة الكاملة.

لا تعجبني أبدًا بعض التحليلات التي تعتبر أن اتفاقيات أوسلو وما بعدها كانت مشروعًا ولد ميتًا. هؤلاء لا يُعيرون اهتمامًا لتوازن القوى آنذاك، ويستسهلون عملية التذكير بمفاهيم العدالة المطلقة بدون تحمّل أخلاقيات المسؤولية التي ميّزها ماكس فيبر عن أخلاقيات الاقتناع، أي أن من مسؤوليتنا نحن المثقفين والباحثين أن نتحلى بالمسؤولية وتقديم بعض التوصيات بحلول وسط تأخذ بعين الاعتبار توازن القوى.

  • اللجوء والهجرة من أكثر القضايا الإشكالية في الوقت الراهن، خاصةً بعد توظيفها في خدمة أهداف وأجندات سياسية معلنة ومضمرة. كيف يرى ساري حنفي انعكاسات موجات الهجرة واللجوء في المنطقة العربية على واقعها السياسي والديموغرافي؟ وما هي برأيك التداعيات المحتملة لاستمرار توظيفها سياسيًا؟

نعم، ربما تكون المنطقة العربية هي أكثر منطقة استقبلت وما زالت تستقبل لاجئين ومهاجرين منذ نشوء الدول الوطنية العربية بعد مرحلة الاستعمار، التي بدأت في منتصف الأربعينيات من القرن المنصرم. وهي في الوقت نفسه منطقة مصدّرة للاجئين ولليد العاملة المهاجرة. لقد تعدّدت أسباب النزوح القسري في القرنين العشرين والحادي والعشرين، وهي تتضمن السيطرة الاستعمارية (كما في حالة طرد الفلسطينيين من أرضهم)، وسياقات ما بعد الاستعمار (مثل اللاجئين الصحراويين والأكراد)، والحرب الأهلية (مثل اللاجئين اللبنانيين)، وأوضاع الصراع وما بعد الصراع (مثل اللاجئين العراقيين).

وبالإضافة إلى تجارب النزوح الداخلي، شهدت المنطقة أيضًا عمليات متقاطعة لنزوح قسري وتوطين قسري لسكان رحّل وبدو تشكِّل الحركة والترحال عنصرين محوريَّين في حياتهم ومعيشتهم. فمنذ إقامة الدول القومية في المنطقة والحدود التي تفصل بين الدول الشرق أوسطية مسامية، وهو ما مكّن اللاجئين من التنقّل بسهولة، نسبيًا، في مختلف أرجاء هذه المنطقة دون الإقليمية طوال القرن الماضي، والوصول إلى دول أبدت تسامحًا كبيرًا لوجودهم على مستوى شعبي ورسمي. نحن نتكلم عن نحو 800,000 فلسطيني تستضيفهم المنطقة منذ أربعينيات القرن الماضي، وعن نحو مليونين إلى أربعة ملايين سوداني فرّوا إلى مصر منذ ثمانينات القرن الماضي، ومليون عراقي نزحوا في تسعينات ذلك القرن، و2.4 مليون عراقي هاجروا منذ سنة 2003.

ساري حنفي: لا يمكن هزيمة المشروع الاستيطاني بدون دور فاعل للوطن العربي، ودور أممي لمن بقي لديه حس تحرري بضرورة إنهاء الاستعمار

لكنّ هذه الحركة العالية النشاط من ناحية، والتسامح الرسمي من ناحية أخرى، لا ينفي أن الدول العربية همّشت أعدادًا كبيرة من السكّان، حارمةً إيّاهم من "حقّ التمتع بالحقّ" (The Right to Have Rights) بحسب تعبير حنّة أرندت.

في الحقيقة، صاغت دول هذه المنطقة دون الإقليمية سياسات تعرّف من ينتمي إلى الدولة ومن لا ينتمي إليها. وهي سياسات أفرزت كتلة من الأشخاص غير المواطنين والجماعات عديمة الجنسية، مثل نحو 150 ألف كردي في سوريا، وآلاف الأطفال الذين وُلدوا لأمّهات لبنانيات وآباء أجانب عديمي الجنسية بسبب قانون الجنسية اللبناني.

وفي منطقة الخليج، خصوصًا، عرّفت النظم الملكية النفطية الجنسية بأسلوب ضيّق للغاية كانت نتيجته إقصاء قبائل "غير مرغوب فيها"، وطمس التاريخ العريق للترحال المعروف لهذه القبائل داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها. وقد أفرز ذلك ظاهرة البدو عديمي الجنسية، أو من يُطلَق عليهم اسم "البدون"، في سائر دول هذه المنطقة عمومًا، وفي الكويت التي يقيم فيها نحو 100 ألف منهم، خصوصًا.

أرى اليوم كيف تتعامل الكثير من الدول العربية مع اللاجئين السوريين بشكل يجعلني أتشاءم، على الرغم من اعترافي بأن هناك ضيافة مجتمعية من بعض المجتمعات المحلية، بدون أن يكون هناك حق لهم بأن يتحولوا إلى لاجئين يتمتعون بالحقوق أو حتى مواطنين. وهذا يختلف كثيرًا عن الوضع الذي نجده اليوم في الدول الأوروبية أو حتى تركيا، حيث يستطيعون الحصول على الحقوق الكاملة التي يحصّلها المواطن، بما فيها الجنسية، بعد عدة سنوات من إقامتهم.

ما يعانيه اللاجئ أو المهاجر في العالم العربي ليس فقط نتيجة للسياسات الحكومية العنصرية المجحفة بحقهم، وإنما بسبب السياسات النيوليبرالية التي خصخصت الكثير من الخدمات، وجعلت عيش الفرد بدون حقوق أمرًا صعبًا للغاية. فكّروا مثلًا في بعض دول الخليج التي أصبح العيش فيها مكلفًا، وأنا أعرف الكثير من هؤلاء اللاجئين الذين يعيشون على مساعدات تأتيهم من خارج الخليج حتى يستيطعون البقاء في أماكنهم بانتظار إمكانية العودة إلى سوريا.

  • هناك قطيعة تاريخية بين المثقف اليساري والمثقف الديني، وفي كتابك الأخير "علوم الشرع والعلوم الاجتماعية، نحو تجاوز القطيعة: أليس الصبح بقريب" تفترض وجود قطيعة بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية، وترى أن الحل يكون في إدخال العلوم الاجتماعية إلى كليات الشريعة، وإدخال التراث وعلم الاجتماع الديني إلى أقسام العلوم الإنسانية والاجتماعية. لكن هذا يقتصر على الحيز الأكاديمي، فما المطلوب خارج هذه الدائرة، أي في الفضاء العام؟

أولًا أنا أعتبر أن الدور الذي تلعبه النخب في الحيز العمومي هو دور هام للغاية في جعل الجدل هناك معقولًا. وما يجب ألا ننساه هنا هو أن خريجي كليات الشريعة يصبحون أئمةً وخطباء في يوم الجمعة، حيث يمارسون تأثيرًا قويًا على المؤمنين. كما أن هناك ارتباطًا بين الاتجاهات السياسية اليسارية والعلوم الاجتماعية والإنسانية. ما يعني أن العمل على التقريب بين مفردات النخبتين وتعرّف كل منهما على حجج الأخرى أمر هام لمعالجة الاستقطابات الحادة التي يعيشها العالم العربي في كل بلد على حدة.

يظن كثيرون اليوم أن المثقفين الإسلاميين يقومون باختزال الحجج الأخلاقية على القواعد الفقهية، أو اعتبار حجج المثقفين اليساريين الأخلاقية بأنها نابعة فقط من قراءتهم للواقع الاجتماعي الذي يعيشون فيه بدون تأثير معياري للتراث أو العولمة. ما بينته في دراسة لي (مع عزام طعمة) حول الجدل الذي حصل في تونس آخر أيام الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، حول قضية تغيير قانون الميراث لجعله متساوي بين الرجال والنساء، هو كيف استخدم كلا الطرفين، أي الذين يؤيدون تغيير القانون وأولئك الذين يعارضون تغييره، حِجَاج مركب مستقى من الحقول النصية والقانونية والسوسيولوجية.

  • يرى البعض أن ثورات الربيع العربي أعادت إلى الواجهة سؤال الهوية الذي وجدت المنطقة نفسها في مواجهته بعد نهاية حقبة الانتداب، والمتمثل في سؤال: من هم السوريون؟ اللبنانيون؟ العراقيون؟ كيف تنظر إلى هذه المسألة اليوم؟ خاصةً في ظل تصاعد الخطاب الطائفي واستمرار النزوح نحو الطائفة على حساب الهوية الوطنية؟ في السياق نفسه، هل ترى أن بناء الدولة الوطنية هو الحل الوحيد للأزمات التي تواجهها المنطقة؟ وهل لا يزال ممكنًا إقناع الشعوب العربية بفكرة الدولة الوطنية؟ ألم يعد الأمر ضربًا من الخيال بعد بلوغ عملية التكتلات المذهبية والنزوح نحو الطائفة والتخلي عن الهوية الوطنية مرحلة مخيفة؟

كإنسان عروبي أؤمن بأن خلاص الوطن العربي بوحدته، ولكن لا أرى ذلك باعتباره حلًا يأتي من فوق، وإنما من الأسفل إلى الأعلى، أي بفعل مبادرات مجتمعية لبناء علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية تتجاوز الدولة الوطنية بحيث يتحقق شكل من أشكال التعاون والتضامن مع دول الجوار، وكذلك مع جميع الدول العربية.

أرى مثلًا ما حصل في ملاعب قطر أثناء المونديال من تضامن بين الشعوب العربية شيء رائع. فهناك عبّر المنتخب المغربي بطريقة مبدعة عن رفضه للتطبيع "الحار" بين المغرب وإسرائيل. أما فيما يتعلق بالهوية الوطنية، فنحن بحاجة إلى بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الليبرالية التي تحترم الهويات المكونة للجماعات القاطنة في هذه الدولة، بما في ذلك الهوية الإسلامية. وأوكد على النقطة الأخيرة لأنني أؤمن بالحاجة إلى دولة مدنية/ علمانية ليست معادية للدين، بل تحترم الهوية الإسلامية للمجتمع العربي. فأنا أعرّف هذه الدولة بأنها دولة تميّز بين الديني والسياسي، دون أن تفصله تمامًا، وتأمّن الحد الأدنى من حيادية الدولة تجاه مواطنيها.

وفي الوقت نفسه، يجب الاعتراف بتعددية الهويات الدينية والطائفية والإثنية واحترام خصوصياتها الثقافية واللغوية، ومفهومها للخيرات وماهية الحياة الطيبة في إطار المواطنة للجميع. عندما أفكر بالتعددية يذهب ذهني ليس فقط إلى الجماعات المذهبية الدينية والوجود الأصيل للمسيحيين والأكراد والأمازيغيين في المنطقة، ولكن لحق الأفراد في حرية الضمير. وهكذا أرى كيف ينبغي التعامل مع المستوى الفردي والجماعاتي والوطني والقومي في آن واحد.

ساري حنفي: استطاع "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" خلق جدل بين اتجاهات فكرية مختلفة، منها القومي واليساري والإسلامي والماركسي، وهذا شيء نادر

أما فيما يتعلق بالنزوع إلى الهوية الطائفية، فيجب برأيي الاعتراف بأنه في غياب دور قوي للدولة، يلجأ الأفراد إلى تمتين علاقاتهم ضمن الجماعات الدينية، وغالبًا ما تدخل هذه الهوية الطائفية في صراع مع الطوائف الأخرى، الأمر الذي يساهم في إضعاف الدولة الوطنية. هذا ما نجده اليوم في كل من لبنان والعراق واليمن بالشكل الأكثر كارثية. هل يمكن أن يكون للمرء هوية طائفية أو هوية محلية أو هوية وطنية في الوقت نفسه؟ جوابي نعم. ولكن يبقى المهم هو إعطاء الأولوية لـ "الوطني" على حساب "الطائفي".

  • عملت رئيسًا لتحرير مجلة "إضافات" لمدة 15 عامًا، وتحدثت عن هذه التجربة في مقال وداعي نُشر في المجلة نفسها. ما الذي أضافته إليك هذه التجربة كعالم اجتماع؟ وما الذي أخذته أيضًا؟

ها أنا اليوم قد حررت 60 عددًا خلال 15 سنة منذ رئاسة تحرير مجلة "إضافات" في ربيع عام 2008، حيث صدر العدد الأول، وتوالت بمعدل 4 أعداد سنويًا.

لا أخفي على القارئ أنني ما كنت لأرضى بالبقاء كل هذه المدة لولا شعوري بأهمية الجماعة العلمية في الوطن العربي. وكنت أتذمر في السنوات الأخيرة للزملاء في الجمعية والمركز، وأدعو للبحث عن رئيس تحرير بديل. فمسؤولية رئاسة تحرير مجلة بدون سكرتارية، يعني أن تقع على عاتقي مسؤولية القراءة الأولية للمواد التي تصل، ومن ثم إرسال ما يصلح بالفرز الأولي إلى مراجعين (أو أكثر في بعض الأحيان)، بالإضافة طبعًا إلى اللجنة العلمية لمجلات "مركز دراسات الوحدة العربية".

لم يكن إيجاد مراجعين بالأمر السهل (وهذا بحد ذاته مؤشر على ضعف الجماعة العلمية) في الوقت الذي لا نستطيع فيه دفع مبلغ مقابل ذلك العمل. وطبعًا تُعَدّ تطوعية المراجعة من مسلّمات الجماعة العلمية في العالم، أي من دون مقابل/ أجر.

لا شك أنني استفدت كثيرًا من اطلاعي على كمية هائلة من المخطوطات، وكذا قراءتي السريعة للبرديغمات والاتجاهات الجديدة التي يتبناها الباحثون في علم الاجتماع في العالم العربي. وقد ساعدني هذا الأمر كثيرًا في تقييم المنتج السوسيولوجي العربي الذي حللته سواءً في كتابي "البحث العربي ومجتمع المعرفة"، أو في مقالتي حول تطور براديغمات البحث الاجتماعي ما بعد الربيع العربي الذي نشرته في كتابي المحرر "The Oxford Handbook of the Sociology of the Middle East".

  • بعد سنوات طويلة من العمل في مجال علم الاجتماع، هل تغيّرت نظرتك إلى الجماعة العلمية العربية؟

هذا سؤال مهم في الحقيقة. لقد افتتحت كتابي "البحث العربي ومجتمع المعرفة" (الذي ألّفته مع الصديق ريغاس أرفانيتس) بالشكوى من ضعف الجماعة العلمية العربية. سؤالك هل تغيّرت هذه الجماعة مع الوقت؟ جوابي نعم، وذلك لأسباب تتعلق بوعي الباحث العربي لأهمية جماعة يتحاور معها وتحميه.

ولكن هناك أيضًا أسباب بنيوية، ولذلك دعني أركّز هنا على الجماعة العلمية في العلوم الاجتماعية، حيث تأسست مؤسستان هامتان جدًا في العقد الأخير (ونيف)، وساهمتا بشكل حاسم في تنظيم هذه الجماعة، وهما "المجلس العربي للعلوم الاجتماعية" الذي قام لأول مرة بتنظيم مؤتمرات إقليمية كل سنتين للباحثين العرب، ولعب دورًا مهمًا في دعم مقاربات جديدة للعلوم الاجتماعية، وتقديم منح لموضوعات جديدة لم يكن الباحث العربي مهتمًا بها سابقًا. و"المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" الذي يقع مقره الرئيسي في الدوحة، وتكمن أهميته في قدرته على خلق جدل بين اتجاهات فكرية مختلفة، منها القومي واليساري والإسلامي والماركسي، وهذا شيء نادر.

لقد أظهرت في أبحاثي السابقة دلالات سوسيولوجية لهذه القطيعة بين نخب باتجاهات مختلفة. فعلى سبيل المثال، لا توجد نقاشات بين المثقف اليساري والمثقف الديني في الصحف اليومية. وإذا شاهدنا نقاشًا بينهما في التلفاز، فغالبًا ما يكون على شكل مصارعاتي مشهدي سجالي، كما نجده مثلًا في برنامج "الاتجاه المعاكس" لفيصل القاسم على قناة الجزيرة. وهو سجال لا يشكِّل بوتقةً لعقلنة الخطابات، بل للتجييش "البافلوفي" اليساري ضد الديني أو العكس. وهكذا تصبح هذه الاستقطابات الحادة مادةً غنيةً للجماهير لتعميق الفكر التكفيري بأشكاله المختلفة: العلماني، أو الديني، أو الفكر الثنائي: الوطني/ الخائن، أو المقاوم – الممانع/ العميل.

وتظهر سوسيولوجيا القطيعة أيضًا عند حصر أسماء المشاركين في ثلاث وعشرين ندوة أو محاضرة حول الانتفاضات العربية أُقيمت في "الجامعة الأمريكية" في بيروت، بين عامي 2011 و2015. فمن بين عشرات المشاركين، هناك فقط مدعوان من ذوي الاتجاهات الإسلامية، مقابل العشرات من المنظرين اليساريين. وكان هناك الكثير من الأوراق عن الحركات الإسلامية، ولكنها بلون واحد تجييشيّ للحديث عن "سرقة الثورات" من قِبل هذه الحركات، و"عدم مصداقية مطالبتهم بالديمقراطية"، وأن "سيد قطب يبقى الملهم التنظيمي والنظري تحت عباءتهم"، وأنهم "عملاء لأمريكا والسعودية"...إلخ.

  • كيف تقرأ الوضع الحالي في فلسطين؟ سياقاته وتداعياته؟

فيما يتعلق بالوضع الحالي في فلسطين، فأنا متشائم جدًا مع الحفاظ على تفاعل الإرادة (كما يقول أنطونيو غرامشي). وعلى الرغم من كثرة حديث محور الممانعة عن انتصارات تكتيكية هنا وهناك، ألا أنني لا أرى في الوضع الحالي سوى هزائم استراتيجية أَلْحَقَنا بها المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، خاصةً في الضفة الغربية، في ظل انقسامات مخزية في الأراضي الفلسطينية سببها الرئيسي، ربما، هو استبداد السلطة الفلسطينية. أي أن هذه الانقسامات ليست لها بالضرورة علاقة بما يفعله العدو من "فرّق تسد".

ساري حنفي: نحن بحاجة إلى بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الليبرالية التي تحترم الهويات المكونة للجماعات القاطنة في هذه الدولة، بما في ذلك الهوية الإسلامية

ولا أرى إمكانية لهزيمة هذا المشروع الاستيطاني بدون دور فاعل للوطن العربي، ودور أممي لمن بقي لديه حس تحرري بضرورة إنهاء الاستعمار عن الأراضي الفلسطينية على الأقل، أو إقامة الدولة الواحدة على كل أراضي فلسطين لكل مواطنيها. بينما يسرني جدًا الدور الرائد الذي تلعبه حركة المقاطعة "BDS" ضد اسرائيل في العالم، وهي الحركة التي أزعجت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في العقدين الآخرين، خاصةً عندما أكدت هذه المقاطعة على منع أي اتصال أو تعاون مع المؤسسات الاقتصادية والثقافية والأكاديمية الإسرائيلية.

وفي الوقت الذي أنظر فيه بعين الحزن والأسى إلى التطبيع المجاني التي تقوم به بعض الدول العربية مع الكيان الصهيوني ومؤسساته، آمل أن تعود العلاقات الفردية مع أفراد إسرائيليين معاديين للصهيونية أو للاستعمار، متمنيًا أن يأتي اليوم الذي تتكون فيه جبهة فيها كل المعادين للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي مؤلفة من عرب ويهود، لعل ذلك يحرك المياه الراكدة.

لم يكن المشروع الصهيوني مكشوفًا بعنصريته بقدر ما هو عليه اليوم، حيث يتحالف بنيامين نتنياهو الليكودي مع اليمين القومي الديني المتطرف. ولعل في ذلك بارقة أمل لإعادة الوعي عند الإسرائيليين وعند الأحرار في العالم حول طبيعة نظامهم السياسي. حتى الآن، عندما أنظر إلى الشعارات المرفوعة في مظاهرات تل أبيب، لا أجد أية لافتة تنادي بإنهاء الاحتلال. ولكن أهمية هذه الجبهة التي أتمناها هي أن تكون فرصة لدفع قضايا إزالة الكولونيالية إلى أجندات المعارضة الإسرائيلية.