هناك أسئلة عديدة تطرح اليوم على ضوء ما يحدث في غزة منذ أربعة أشهر من الإبادة الضارية، وهذه الأسئلة لا تتعلق بما يأتيه الفلسطينيون من أعمال مقاومة خارقة فحسب، ولا من بشاعة الجرائم الصهيونية، بل ولا حتى من الإسناد الواسع لجرائم الاحتلال لدى "دول العالم الحر".
هذه الأسئلة تأتي من الخذلان الذي تعيشه فلسطين من بيئتها المفترضة، وهذا الخذلان لا يأتي كما نكرره دائمًا من الحكومات أو الأجهزة الرسمية في أكثر من عشرين بلدًا عربيًا، بل من الرأي العام العربي نفسه، وهو ما يوسع حدود المأساة الفلسطينية، والعربية عمومًا. إن تصوير المشهد وكأن الشعوب العربية محتجزة من دولها، وأن ذلك ما يمنعها من إسناد الكفاح الوطني الفلسطيني، هي عملية تجميل لواقع أكثر سوءًا. ما يحدث ببساطة منهجية شديدة أن خمسة أو ستة عقود من عمر "الدولة الوطنية" في البلاد العربية قد أدت إلى ما نعيشه اليوم بالضبط سواء تعلق الأمر بالحكومات أو بالشعوب.
يعني ذلك أن الوضع أكثر تعقيدًا من أن يسفر فقط عن تحميل الدول والحكومات مسؤولية الخذلان الحالي لفلسطين. فلم يكن من نتائج النموذج تفريخ حكومات بهذا المستوى من التبعية والقطرية وضيق الأفق فحسب، بل أيضًا شعوبًا منهكة بمشاغلها المادية المباشرة وغير قادرة، بفعل ما تلقته من "تربية"، بل وبرمجة، على استعادة الثقة في رابطة أوسع من الحدود التي أُغلقت عليها.
عندما اخترعت النخب "الدولة الوطنية"
هناك التباس لغوي هام في موضوع الدولة الوطنية، وهذا الالتباس لم ينشأ مع الاستقلال، بل منذ فترة نشأة الشعور الوطني تحت الاستعمار الأجنبي الذي كان يسمى شعورًا قوميًا وحركة قومية. إن عملية تطويع التفاصيل التاريخية لجعلها تؤدي إلى ترسيخ القناعة بنوع من التميز القومي، وبالتالي تبرير الجهد الذي انطلقت فيه النخب لبناء كيانات سياسية محلية، هي عملية عريقة سبقت حصول البلدان العربية على استقلالها السياسي من المستعمر.
لم تفشل الدولة الوطنية فحسب في ضمان الحاجيات الغذائية الطبيعية الدنيا لمواطنيها، وإنما في صيانة الحد الأدنى من كرامتهم القومية، بل وحتى الوطنية
إن المرور من استعمال مفردة "قومي" إلى استعمال مفردة "وطني" حري بأن تخصص له دراسات مستقلة. ففي حين أن المفردتان كانتا مجرد مرادفين للفظة "National"، فإن تكثيف استعمال الأولى ثم مسحها تمامًا من المعجم المتداول لفائدة الثانية له دلالاته التاريخية المرتبطة بمسيرة "الدولة الوطنية" ذاتها. لقد تطورت المفردتان من مترادفين إلى متمايزين، بل ومتضادين ضمنيًا عندما وقع إحياء مشروع القومية العربية في خمسينات القرن الماضي مع الناصرية في مصر والمنطقة العربية. أصبحت "وطنية" إعلان تمايز عن مشروع سياسي متجاوز للحدود القطرية للدول المعنية فحواه أن هناك التزامًا بالحفاظ على الوضع القائم، أي دولة واحدة في كل منطقة غادرها الاستعمار.
ينبغي ملاحظة هذا التعاظل "Ambivalence" كظاهرة تاريخية ولغوية وسياسية بكثير من الدقة. لقد كان تكثيف استعمال "وطنية" في سياق الستينات والسبعينات عملية ابتعاد واعية عن "قومية"، بما تحيل إليه من مشروع سياسي فوق قطري، وقرارًا باعتبار حدود القطر نهائية، ومن هناك توجيه النخب جهدها لبناء كيانات اجتماعية متلائمة مع هذه الضرورة السياسية.
سياسيًا، كان ذلك نوعًا من الإقرار بأن وطنية لا تعني قومية، بل نوعًا من النقيض لها، وفي الوقت نفسه كان الأمر يتعلق تطبيقيًا بالابتعاد عن المحددات العامة للنموذج القومي المستورد من الغرب الذي استندت إليه تلك النخب فلسفيًا لتبرير مشروعها القطري. هذا هو المنعرج الذي أدى للحديث عن أمة جزائرية وأمة مصرية وأمة مغربية وأمة تونسية على سبيل المثال. لقد هدفت كل الدعاية التي أنشئت بمناسبة هذا المنعرج إلى بناء مشاريع قطرية بمبررات قومية مستعارة من النموذج القومي الأوروبي للقرن التاسع عشر.
وفي الوقت نفسه فقد كان جهد النخب، من جهة إصرارها على إنجاز المشروع الوطني بطريقة متناسقة، مثيرًا للإعجاب. لقد تم ذلك في اتجاهين: اتجاه المكون فوق القطري بما يحيل إليه من نموذج تاريخي وهدف حضاري عن طريق إبراز التمايزات القطرية في اللباس واللهجة والموسيقى والعادات التي تبرر الانزواء عن بقية المكونات فوق القطرية. ثم اتجاه الكيانات تحت القطرية سواء كانت ثقافية أو اجتماعية، عن طريق محاصرة الانتماء الجهوي والتشكل القبلي للمجتمع، بتذويبها تمامًا كمرحلة ضرورية لنشأة الشعب الوطني.
لقد تشكل هذا الشعب حول رموز مستحدثة للتضامن، مثل "المنتخب الوطني" و"النشيد الوطني" و"الراية الوطنية". كما أنه تشكل من أفراد وليس من جماعات، بعد أن تمت مهاجمة هياكل التنظم الاجتماعي التقليدي، حيث بلغ الأمر في تونس، مثلًا إلى حد فرض تغيير الألقاب العائلية بدعوى "محاربة القبلية".
لقد بدأت بذلك عملية تربية طويلة ومتناسقة للفرد، وبالتالي للمجتمع، الذي نعرفه اليوم. إن ما نتعايش معه اليوم هو نتيجة لعملية برمجة وتخطيط واع أرادتها ونفذتها النخب. ينبغي التأكيد على أن الأمر يتعلق بذلك الجزء من النخب الذي تبنى النموذج الغربي وسعى إلى تطبيق مخرجاته السياسية والثقافية العامة، والتي ستقع ترجمتها في سياسة الدولة بعد الاستقلال، سواء تعلق الأمر بالتعليم أو بالاقتصاد أو ببناء المؤسسات الجديدة.
طيلة عقود عديدة كانت النخب الجديدة ترجع ضعفها وفشلها في تنزيل الإصلاحات إلى قوة التيارات المحافظة في المجتمع، وتقدم الأمر على أنه في الأساس صراع بين روح العصر وقوى التكلس الرجعية. كان ذلك في جزء منه تغطية على مشكلة كبيرة، وهو أنه لم يكن من السهل، حتى مع انعدام تيارات محافظة قوية، استيراد نموذج أجنبي كان نشوؤه تعبيرًا عن حاجات ثقافة أخرى ومجتمع آخر واقتصاد آخر، في بيئة مختلفة تمامًا، ثم انتظار أن تجري الأمور كما أرادها المستوردون. وقع النظر إلى التحديث كسلعة مثل بقية السلع التي تنزل في الموانئ فتجد طريقها إلى المتاجر والبيوت، لكن الأمر كان أكثر تعقيدًا.
أما في الجزء الثاني من المسألة، فقد أريد للدولة أن تعوض الجميع بما فيها القوى الاجتماعية التي كان يفترض أن يأتي التحديث استجابة لطموحاتها وحاجاتها، مثلما وقع في أوروبا بالضبط عبر ثورات البورجوازية الصغيرة والطبقات الوسطى. هذا ما يفسر أن النخب المرتبطة بالتحديث والمحيطة بالدولة هي من كان يخلق الحاجة للإصلاح، ثم كانت الدولة ذاتها تأتي وتنجز ذلك الإصلاح.
لقد بدأت الدولة بذلك مسار تغول لن ينتهي أبدًا. كانت نخب التحديث تفكر وتحكم في الوقت نفسه، وكانت تعتقد باسم تبنيها لقيم العصر أنها القوى الطليعية الحقيقية الوحيدة في المجتمع، وأن عليها إعادة بناء كل شيء، بما في ذلك المجتمع نفسه. هذا مختلف جدًا وبعمق عن دور الدولة ونخبها في المجتمعات التي استوردنا منها التحديث حيث كانت تلك النخب نتاجًا لحاجة الطبقات للتغيير وتنقيح أو تثوير البنية الاجتماعية والإقتصادية.
إن تصوير المشهد وكأن الشعوب العربية محتجزة من دولها، وأن ذلك ما يمنعها من إسناد الكفاح الوطني الفلسطيني، هي عملية تجميل لواقع أكثر سوءًا
لعله من المفيد اليوم أن نعيد التفكير في المبررات التي واجهت بها قوى المحافظة تيار التحديث. طيلة أكثر من قرن ونصف كنا نقرأ تلك المواقف بعين الحداثيين، لكن هذه العين لم تكن أبدًا محايدة. وإذا أعدنا تناول نصوص "التقليديين" اليوم، في ظل ما يحدث من تصاعد للتيارات الشعبوية، ألا نجد، فيما عدا التخوفات المتوقعة من التغيير، نوعًا من التوجس من أن استيراد التحديث كبضاعة لم يكن لينجح مهما كانت قوة الفئات الحاملة للوائه؟
بعد قرن ونصف من تلك الصراعات النظرية، وبعد أزيد من سبعين عامًا من تحكم الحداثيين في القرار السياسي والتربوي والاجتماعي والاقتصادي والإداري، بأي نتائج يمكن أن نواجه الانتقادات التي تطال اليوم الليبرالية بوصفها منتهى خطة التحديث؟ بالديمقراطية من دون حريات؟ أم باقتصاد المناولة للخارج العاجز عن خلق الثروة وإعادة تدويرها؟ أم بفشل الأنظمة التعليمية؟ أم بالتبعية السياسية والاستراتيجية والأمنية المتزايدة للخارج وفقدان القدرة على القرار المستقل؟ أم بعجز المجتمع عن الحد من تغول الدولة التي سلمها قياده بعد فقدانه القدرة على استعادة أشكال تنظمه وتضامنه التقليدي التي عصف التحديث بها جميعًا؟
إننا نجد هنا، في معظمها، أهم ما وجهه "التقليديون" أو "المحافظون" للحداثيين من تحفظات قبل قرن ونصف، لكننا لم نكن ننظر بعين الإنصاف. ها أن الليبرالية في الغرب نفسه تقف اليوم عاجزة تمامًا عن مواجهة الشعبوية وغير قادرة عن النجاة بجلدها من دون تنقيحات على الأسس التي قامت عليها، وها أن نفس الشعبوية في بلداننا نحن تحطم تمامًا، بإسناد حقيقي من المزاج العام، كل ما أنجزه التحديث طيلة سبعين عاما من "الاستقلال وبناء المؤسسات".
العودة الصعبة إلى الأمة
ينبغي أن ندرك اليوم، ونحن نشهد أزمة التحديث بل خيبته، أن المشكل مضاعف. هناك أزمة أصلية للنموذج في الصيغة التي تطور إليها، الليبرالية ثم العولمة، في الغرب نفسه. يمسك الغرب بكل شيء، لكن ذلك لا يعفيه من المرور بأزمة تفرخ كل يوم مزيدًا من المآزق. لكن الأمر أكثر سوءًا لدينا بكل تأكيد. وإذا كانت تيارات وازنة وصاعدة اليوم في الغرب نفسه، وفي أوروبا بالخصوص، تستفيد من الاعتقاد المنتشر بفقدان السيادة والتراجع إلى مرتبة التابع قتصاديًا واستراتيجيًا لمركز العولمة ومنتهاها التي تمثلها الولايات المتحدة، فما الذي يمكن أن يصف حالنا نحن؟ تابعون لتابع؟
يفسر السوق الكثير من نقاط الأزمة، وهو ما يعيدنا إلى النموذج، أي إلى التحديث ومنتهى طريقه التي تمثله الليبرالية ثم العولمة. كانت القومية في أوروبا تعبيرًا عن الحاجة لتأميم السوق، وتعبيرًا عن طموح البورجوازية لتشكيل كيان متجانس من المستهلكين القارين. ليس مفاجئًا لأحد أن يكتشف أن العوامل نفسها قد حركت الاستعمار كسياق توسعي طبيعي لفكرة السوق. يعني ذلك ببساطة أن كل شيء انطلق في البداية من حراك اجتماعي ما، أنزل طبقات ورفع أخرى، وغير شكل الاقتصاد بما أحدث تراكمًا كان لا بد له من متنفس.
لم يتغير الأمر كثيرًا، من ناحية الحاجة الرئيسية للمنظومة الليبرالية، منذ ذلك الوقت، حيث قامت حربان عالميتان من أجل تلبية نفس الانتظارات تقريبًا. قوميات متصارعة من أجل التوسع، ومن ورائها مراكز اقتصادية ومالية وطبقات ونخب كانت تقوم بعمليات الجمع والطرح والقسمة والضرب. هذا هو بالضبط المعنى من القول إن شكل النظام الاجتماعي وصراع المصالح داخله هو ما يحدد شكل الدولة ونظامها وأولوياتها.
إن جزءًا هامًا من أزمة "الدولة الوطنية" لدينا اليوم هو في رغبتها القديمة في القيام بكل المهام بنفسها، بما فيها تلك التي تعود في الأصل للحراك التاريخي الطبيعي داخل المجتمع. لكنها، وهي تسعى لذلك، لا تدرك أنها تبني على أرض لا تملك من الصلابة شيئًا. وفي حين بدأ التحديث في أوروبا على أساس تطور تاريخي واجتماعي أنشأ جماعات ومصالح، فإن دولتنا الحديثة سعت بإخلاص للقضاء على الجماعات والمصالح بهدف إنشاء "أمة" جديدة تكون طوع خطتها تمامًا. أخذ السوق نفس المنحى، ففي حين استجابت القومية لحاجة البورجوازية للاستئثار بالسوق القومية وتوسيعه، كان طبيعيًا أو متوقعًا أن سوق الدولة الوطنية كان سينحسر بالضرورة في الحدود المرسومة، وهو ما يمنع البورجوازيات المحلية لحد اليوم من تحقيق التراكم، ورضاها بدور المناول للمصالح الخارجية التي وقع استيرادها مع التحديث.
يقلب ذلك بالضرورة كل شيء رأسًا على عقب. استقلت الدول الوطنية عن الأمة، لكنها أوثقت نفسها بوثاق التبعية لمصالح أمم أخرى. يفسر ذلك إلى حد كبير ضعف اندماج الاقتصاديات العربية عامة الذي تعبر عنه سياسات جمركية تزيد في إحكام رابطة التبعية للرأسمال الغربي، وتغرق الدول الوطنية أكثر فأكثر في طين العجز والتداين، وبالتالي التبعية في القرار. ذلك أن النموذج القومي الأوروبي المستورد، بوصفه نموذج سوق، هو بالضرورة نموذج استهلاك، كما أن هناك قدرة للرأسمالية على تحويل الاستهلاك إلى ثقافة.
ما الذي تردت إليه الدولة الوطنية اليوم في بلداننا؟ وإذا ما قارنا الواقع بما كان مأمولًا منها في البداية، أو بمضامين الدعاية التي سوقتها والتي واجهت بها المحافظين، فأي كفة سترجح؟ لنعد قليلًا إلى النخب التي رفعت لواء التحديث وشنت حروبه المتتالية والمظفرة. ألم تكن نتيجة استيراد النموذج ومحاولة إعادة إنتاج مخرجاته دون اعتبار انعدام مقوماته متوقعة؟ ينكر هذا السؤال طبيعة الصراعات التي كانت تشق النخب، وأزمة نظام القيم التقليدي، والهجمة الواسعة للتحديث وللفكر القومي الأوروبي بكل زخمه. كان الأمر يتعلق ببساطة بما يسمى "روح العصر" التي عصفت بكل القديم، من الفكرة التي كان يدور حولها إلى القيم التي أنتجها. كانت نخب جديدة تستعد لأخذ مكانها في أعلى الهرم الثقافي والسياسي على أنقاض النخب المحافظة، ولم يكن ذلك المسعى ليضمن النجاح من دون تحطيم القيم المحافظة ذاتها وبصفة نهائية. ساعد الاستعمار على ذلك بطريقة أو بأخرى، فقد كان فتح السوق لسلعه ونفوذه يمر هو الآخر حتمًا عبر تحطيم قوى المحافظة. كان ذلك يعني ترسيخ التوجه نحو الغرب كمثل أعلى، وإلقاء كل الشرق في سلة المهملات.
لكن الشرق ليس مجرد محافظة، بل منظومة قيم متمايزة تتمحور حول الأمة، نفس الأمة التي وقع تفكيكها إلى أمم وطنية صغيرة. يجعل ذلك من التحديث بالضرورة عملية تفكيك ممنهجة لفضاءات التمايز الثقافي والاقتصادي، وهو تفكيك لا يتم تجاه عوامل الانتماء فوق القطري فحسب، بل أيضًا إزاء جميع أشكال التضامن والتنظم تحت القطري. فكك التحديث الأمة إلى أمم صغيرة، ثم إلى مجرد أفراد مستهلكين يقع استهدافهم بنمط تربية وتعليم يرسخان في وعيهم الفردي والجمعي استحالة عودتهم للحالة القديمة. هذا جزء مما يفسر اليوم أن الناس قد يتحمسون أحيانًا "لمنتخبهم الوطني" أكثر من حماسهم لفلسطين، وعندما لا نصل إلى هذا المشهد فإننا نظل نراوح على الأقل في موقع الانفصام الأليم.
هل يعني ذلك أن قيمة الحرية، كقيمة أصلية في النموذج التحديثي والليبرالي، وغيرها من قيم المساواة والحقوق، تصبح مهددة بهذا "الارتكاس" إلى المحافظة؟ يقول الشعبويون اليوم إن الأمر يتعلق بمنظومة قيم لا تخدم في الممارسة منذ قرن ونصف سوى منظومة الهيمنة الغربية، وهذا ليس مجانبًا كثيرًا للحقيقة. ما يريده الشعبويون من هذا القول شيء آخر بطبيعة الحال، لكن زمن نزع القداسة عن التحديث على ضوء مخرجات الليبرالية والعولمة قد حان بالتأكيد.
أضحت الدولة القطرية، بحكم الدور الذي وضع لها والحدود التي ضبطت لأدائها، مجرد مشروع فناء
هل يمكن إعادة بناء قيمة الحرية والحقوق خارج نموذج السوق؟ وهل أن مراجعة الليبرالية كخيار يؤدي بالضرورة إلى إعادة تحكم التيوقراطية والاستبداد؟ سيعيدنا ذلك بالضرورة إلى إحياء الجدل القديم الذي لم ننفك ننظر إليه بتلك العين غير المحايدة، عين التحديث، منذ قرن ونصف. لكن التحديث يواجه المعضلة اليوم منهكًا وبشرعية تاريخية مهترئة. تفتح الحرب على غزة اليوم أبصارنا على ما هو أكثر فداحة من فقدان الحداثيين نقاطًا في معركتهم مع المحافظين. إنها تظهر لنا بطريقة ليس أبلغ منها بأن مشاريع الدول الوطنية، من شرق الخريطة إلى غربها، قد تحولت إلى كيانات إسناد للصهيونية ولحرب الإبادة التي تشنها بتمويل وانخراط نشطين من قلاع الحداثة الغربية.
لم تفشل الدولة الوطنية فحسب في ضمان الحاجيات الغذائية الطبيعية الدنيا لمواطنيها، وإنما في صيانة الحد الأدنى من كرامتهم القومية، بل وحتى الوطنية. إن مثال مصر اليوم ليس خطًأ مطبعيًا. فشلت الدولة الحديثة التي سميت أيضًا وطنية في الحكم دون استبداد، في التصرف بنجاعة في معيشة الناس، في تكوين سوق، في التحكم في حدودها، في الحفاظ على كرامة مواطنيها ففقدت قرارها بالكامل. إن تحديثًا مقلوبًا مفرغًا من مضمونه يحطم القيم القديمة دون قدرة على البناء عليها، ينتهك الحرية ويجعل من ذلك نظام حكم، يحتقر العقل وينكر الحقوق، لا يمكن أن يسمى تحديثًا ولا حداثة.
هل لا يزال ممكنًا اليوم توقع نجاتنا من مأزقنا العظيم بالاستمرار في التفكير داخل نفس القوالب؟ وهل لا يزال بإمكان "الدولة الوطنية"، بعد كل هذه المسيرة البائسة، أن تقدم نفسها كنموذج غير قابل للمراجعة، تحديث بلا حداثة، وليبرالية دون حرية، وسيادة دون قرار؟
هناك حاجة ملحة لإعادة التفكير في النموذج: أضحت الدولة القطرية، بحكم الدور الذي وضع لها والحدود التي ضبطت لأدائها، مجرد مشروع فناء. لا يمكن تحقيق مراجعة النموذج من دون تواضع الحداثيين والليبراليين، وهذا التواضع لا يمر من استئناف الجدل من حيث توقف قبل قرن أو أكثر، بل من حيث يجد نفسه اليوم. هناك حاجة لوضع الحداثيين في مواجهة العقل المستند إلى التجربة، وهي روح الفلسفة الوضعية ذاتها.
لكن التحديث، أو خطابه، بتحوله اليوم إلى نظام مصالح تجتمع حوله نخب وفئات متنفذة، قد أصبح هو الآخر نوعًا من المحافظة الاجتماعية والثقافية. إنه يجد نفسه في ذات الموقع الذي كانت فيه المحافظة القديمة قبل أزيد من قرن، دون قدرة على إنقاذ نفسه من مصيره التاريخي، حاملًا معه نحو ذلك المصير الليبرالية و"الدولة الوطنية".