28-مارس-2018

تصميم الترا صوت

تأثّرت الفلسفة العربية الإسلامية بفلسفة الإغريق، ونسج الفلاسفة على منوال أفلاطون وأرسطو وأفلوطين. في هذه السلسلة من المقالات، سوف نتناول الكنديّ والفارابي وابن سينا وابن رشد والغزالي وابن خلدون، حيث نخصّص حلقة خاصّة لكلّ منهم، نقف فيها على حياته وأفكاره وأعماله، ملاحقين مرحلة الإنتاج الفلسفيّ التي بدأت في القرن التاسع للميلاد، التي تلت حقبة طويلة تميّزت بالنّقل.

كان الغزالي ذا مذهب فلسفي خاص به، يتميّز بالبحث عن اليقين عن طريق المعرفة الداخلية

حلقة هذا الأسبوع مخصصة لـ الغزالي.


الغزالي.. طريق المعرفة الداخلية

ولد أبو حامد، محمد بن محمد بن أحمد الغزالي في الغزالة، وهي بلدة في خراسان. كان أبوه يعمل في غزل الصوف، فقال فريق إنه سمّي بالغزّالي (بتشديد الزاي)، نسبةً إلى حرفة أبيه، وقال فريق آخر إنه سمي بالغزَالي (بتخفيف الزاي)، نسبةً إلى بلدة الغزالة، وهو ما غلب عليه.

إنّ الأثر العميق الذي تركه يرجع إلى أنّه لم يكتف باقتباس بعض المسائل الفلسفية، أو نقضها والردّ عليها، بل لأنه حمل معاول الهدم وادعى لنفسه تقويض الفلسفة كلها.

كان الغزالي ذا مذهب فلسفي خاص به، يتميّز بالبحث عن اليقين عن طريق المعرفة الداخلية. في كتابه "المنقذ من الضلال"، الذي يقترب من عوالم السيرة الذاتية، سرد تجاربه في تطبيق منهج النظر العقلي على علم الكلام، وعرض الحجج التي انتهى إلى الأخذ بها حول إمكانية برهان عقلي على الإيمان.

يكتب جورج طرابيشي في "معجم الفلاسفة": "إنّ الغزالي هو، من بين رجالات العصر الوسيط الشرقي، من أكثر من تهيّأ له النفاذ إلى الجوهر الصميم للحياة الداخلية، فكان عماده في دراسته لنفس، وفي تفصيل ذلك في سيرته الذاتية الروحية الوضوحُ والصدق والصراحة". اعتبره المستشرق إرنست رينان "روح المدرسة الإسلامية الأكثر إبداعًا"، أما إيميل برهييه مؤلّف "تاريخ الفلسفة" فيكتب: "آثار الغزالي شاهد لنا على القلق الذي ابتعثه انتشار المشائية في ديار الإسلام، فكتابه تهافت الفلاسفة يرمي، بعد عرض المشائية، إلى تفنيدها، لكنه شاء أيضًا أن يتقي شر الفقهاء الذين كانوا في كل آن وزمان ألدّ أعداء الفلاسفة. وسواء كان من الشُّكاك أم لم يكن، فإن كتاباته تطالعنا بنقد شكي للمعرفة".

كتاب "إحياء علوم الدين" هو أوسع كتب الغزالي شهرة وأعلاها مكانة، وأكثرها تدليلًا على منهجه في المزج بين الفقه والتصوف، والتفكير والتهذيب. وقد قال الإمام النووي: "لو عدمت كتب الإسلام -والعياذ بالله- وبقي الإحياء، لأغنى عما ذهب".

يقول الغزالي في مقدمة الكتاب: "فأما علم طريق الآخرة وما درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في كتابه: فقهًا وحكمة وعلمًا وضياء ونورًا وهداية ورشدًا، فقد أصبح من بين الخلق مطويًا وصار نسيًا منسيًا. ولما كان هذا ثلمًا في الدين ملمًا وخطبًا مدلهمًا، رأيت الاشتغال بتحرير هذا الكتاب مهمًا، إحياء لعلوم الدين، وكشفًا عن مناهج الأئمة المتقدمين، وإيضاحًا لمباهي العلوم النافعة عند النبيين والسلف الصالحين. وقد أسسته على أربعة أرباع وهي: ربع العبادات، وربع العادات، وربع المهلكات، وربع المنجيات".

قسّم الغزالي كل ربع من أرباعه تلك إلى عشرة أقسام، فاشتمل ربع العبادات على العلم، وقواعد العقائد، وأسرار الطهارة، وأسرار الصلاة، وأسرار الزكاة، وأسرار الصيام، وأسرار الحج، وآداب تلاوة القرآن، والأذكار والدعوات، وترتيب الأوراد في الأوقات. فيما اشتمل ربع العادات على آداب الأكل، وآداب النكاح، وأحكام الكسب، والحلال والحرام، وآداب الصحبة والمعاشرة مع أصناف الخلق، والعزلة، وآداب السفر، والسماع والوجد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وآداب المعيشة وأخلاق النبوة. وشمل ربع المهلكات عجائب القلب، ورياضة النفس، وآفات الشهوتين: شهوة البطن وشهوة الفرج، وآفات اللسان، وآفات الغضب والحقد والحسد، وذم الدنيا، وذم المال والبخل، وذم الجاه والرياء، وذم الكبر والعجب، وذم الغرور. وأما ربع المنجيات فيشتمل على التوبة، والصبر والشكر، والخوف والرجاء، والفقر والزهد، والتوحيد والتوكل، والمحبة والشوق والأنس والرضا، والنية والصدق والإخلاص، والمراقبة والمحاسبة، والتفكر، وذكر الموت.

يقول جميل صليبا في "تاريخ الفلسفة العربية": "فلسفة الغزالي يمكن أن تعد بمثابة رد على ما انتشر في الدولة الإسلامية من دعوات إسماعلية وفاطمية وقرمطية، ومذاهب مصحوبة بضعف الدين، وفوضى في الأخلاق واضطراب في السياسة. وإذا كان الغزالي، وهو بمعنى ما تلميذ الشافعي والأشعري والجويني، قد ندب نفسه للدفاع عن السنّة، فمرد ذلك إلى ما وجده لدى صديقه نظام الملك من تشجيع موافق لهوى نفسه، وكان لاستئثار السلاجقة بالحكم في بغداد أثر كبير في تحرير الخلافة العباسية من الحركات الباطنية، كما كان لإنشاء المدارس النظامية أثر عميق في تأييد مذهب السنة ومقاومة الدعوة الفاطمية، وإذا علمنا أن تأسيس المدارس النظامية لنصرة مذهب السنة كان بمثابة رد على تأسيس الجامع الأزهر لنصرة مذهب الفاطمية، وإن عصر الغزالي يتميز بظهور حسن الصبّاح مؤسس فرقة الحشاشين التي ضمّت فيما بعد فرق النصيرية واليزيدية، كما يتميّز ببدء حملة الصليبيين الأولى على المشرق؛ علمنا أن مجهود الغزالي الفكري داخل المدرسة النظامية وخارجها لم يكن بريئًا من كل تأثير سياسي".

 

اقرأ/ي أيضًا:

ركن الورّاقين: في صحبة فلاسفة الإسلام (الفارابي 1)‎

ركن الورّاقين: في صحبة فلاسفة الإسلام (الفارابي 2)‎