09-يونيو-2021

الكاتب البرازيلي روبرتسون فريزيرو

ليست "بعيدًا عن القرى" (منشورات تكوين، 2020/ ترجمة مارك جمال) للكاتب البرازيلي روبرتسون فريزيرو، عملًا روائيًا قائمًا على حكاية وحبكة ومسارٍ سرديٍ يضبط سيرَ أحداثه. ولا يبدو أن مؤلفها أراد تقديمها عبر هذه الصيغة أيضًا، لأن ما يعنيه ليس مجرد سردِ تفاصيل حادثةٍ معينة والانهماك في تفسير أسباب حدوثها، إنما الإحاطة بما تمخض عنها وتصوير انعكاساتها على مسار حياة وسلوك من تعرَّض لها، بأقل ما يمكن من الكلمات وأكثرها تعبيرًا.

قدَّم فريزيرو في روايته عملًا روائيًا لا يحكي بقدر ما يسعى إلى تصوير آثار حادثةٍ معينة على ضحاياها

الحادثة التي بُنيَ عليها العمل، هي عملية اغتصابٍ جماعية نفذها عددٌ من الجنود، إما بإرادتهم أو رغمًا عنهم، بحق مجموعة من الفتيات اللواتي وقعن في أسرهم، ومن بينهن بطلتي العمل ميرنا وشقيقتها مارية التي حَمِلت حينها بابنها إيمانويل، الراوي الذي أوكل إليه فريزيرو مهمة إحاطة القارئ لا بما وقع لهما فقط، لأنه لن يعرف تفاصيل ما حدث إلا في نهاية العمل، وإنما بتأثيره عليهما من خلال وضعه إزاء حالتهما النفسية الراهنة، خاصةً والدته التي يبدو أنها لم تتجاوز الماضي بعد.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة عمار لشموت

الأجواء التي اغتُصِبت فيها ميرنا ومارية هي أجواء حربٍ إذًا، يُحمِّلها إيمانويل أسباب توتر والدته واضطرابها، إذ يعتقد أن سوء حالتها النفسية مرتبطٌ بما خبرته من أهوالٍ في ظل تلك الحرب، التي لم تكتف بإجبارها على الهجرة باتجاه البلد الذي تعيش فيه فحسب، بل وسلبت منها جوزيف، والد إيمانويل المجهول الذي لم يعرف عنه أكثر من اسمه ولون عينيه وشعره.

ولا يبدو أن مارية بدورها تعرف الكثير عن جوزيف، بل يمكن القول إنها تتخيله أكثر مما تتذكره، وهذا ما يجعل من حياتها، وفق تفسير إيمانويل – وهو تفسيرٌ سيكتشف عدم دقته في نهاية الحكاية – شاقة ومضطربة وعلى قدرٍ هائلٍ من التوتر الذي يعود، في جزءٍ كبير منه، إلى شعورها الدائم بالنقص.

هذا النقص المرتبط بغياب الزوج/ الأب، يؤرق إيمانويل أيضًا، ويدفعه نحو اللجوء إلى مخيلته محاولًا عبرها إعادة صياغة ما تخبره به والدته من تفاصيل قد يستطيع من خلالها تكوين ملامح تقريبية لجوزيف الذي سِيقَ إلى الحرب مرغمًا، وفق مارية التي ورث عنها إيمانويل سمة الاتكاء المفرط على المخيلة، مع فارقٍ وحيدٍ يكمن في أنها تعيد تخيُّل أحداثٍ وقعت ثم تتعامل مع تخيُّلاتها على أنها الأصل.

أدرك إيمانويل مماهاة والدته بين الذاكرة والمخيلة في نهاية الرواية، حيث سيعرف، وعلى لسان خالته ميرنا، أن خاله بيتر لم يَمُت متجمدًا في الغاية بعد أن تاه فيها بحسب رواية والدته، وإنما قُتل بسبب احتجاجه على الطريقة الوحشية التي تعامل بها الجنود مع والديه خلال اجتياحهم للقرية وتنكليهم بجميع سكانها: "شدُّوا وثاقه إلى أحد الأعمدة حتى يتدرب عليه المُستجَدُّون من الجنود، وليجعلوا منه عِبرة مُروِّعة لباقي أبناء القرية، طوال سبعة أيامٍ وسبع ليالٍ" (ص 64).

وعرف إيمانويل أيضًا أن سوء أحوال والدته وانفصامها، إضافةً إلى خلطها المستمر بين الماضي والحاضر، لا يرتبط بالحرب فقط، وإنما بحادثة اغتصابها على يد الجنود الذين خلَّفوا داخلها شعورًا دائمًا بالخزي والعار واحتقار الذات، الأمر الذي مهد لمعرفته بأن جوزيف ليس والده كما أوهمته مارية، بل جنديًا رفض اغتصابها فوقعت في حبه وقررت نسب ابنها إليه بعد ولادته. إنه، وبجملةٍ أخرى أكثر دقة، أبٌ مُتخيَّل.

في تلك اللحظة، صار النقص الذي خَبِرهُ إيمانويل فراغًا كبيرًا ضاق بسؤاله عمن يكون إذًا طالما أنه ليس ابن جوزيف؟ غير أن سؤاله سيظل دون إجابة، ذلك أنه لا يعرف غير: "ما سمعته من أمي، مجرد شذرات من الحكاية" (ص 13)، الحكاية التي اتضح له عدم صحة معظم تفاصيلها. وباستثناء يقينه من أنه ابنُ أحد الجنود الذين تناوبوا على اغتصاب والدته، لم يعد إيمانويل على يقينٍ من أي شيءٍ آخر.

إيمانويل إذًا هو الذكرى الوحيدة المتبقية لمارية من حادثة اغتصابها، وآخر ما يذكرها بها كلما ظنت أنها تجاوزتها، وهذا ما يفسِّر عودتها المستمرة، بل واليومية، إلى الماضي. يقول: "أمي عادت البارحة إلى المستشفى، إلى مستشفى أيام الحرب. أنشبت أظفارها في بشرة الزمن الآخر، وبقوة المهزومين الخائرة راحت تصارع بساقيها (...) راحت أمي تصارع جلاديها اللامرئيين، مُعذَّبةً، وقد ضاق عليها الخناق حتى التصقت بالجدار" (ص 69).

ينهي الكاتب البرازيلي روبرتسون فريزيرو روايته، بوضع راويها أمام جردة حقائق مؤلمة. فهو، أولًا، لاجئٌ ليس بوسعه حب الأرض التي ولِد عليها، أو اعتبار نفسه جزءًا من البلد الذي نشأ ويعيش فيه، الأمر الذي خلق عنده أزمة هوية تفاقمت عند معرفته بأنه يحمل دم وسمات وجينات الجندي الذي اغتصب والدته التي أرادت: "أن أكون بيتر، وجوزيف، وجدي (...) بيد أنها جعلتني لا أحد" (ص 25).

وأمام ارتدادات ما سبق، لا يجد إيمانويل جملةً تُعبِّر عن وضعه أكثر من: "لست على يقين من أي شيء". وهي جملة تتكرر عدة مرات في الرواية، وبشكلٍ لا تبدو عنده مجرد جملة عابرة، وإنما عنوانٌ قادرٌ على اختزال العمل بأكمله.

الحادثة التي بُنيت عليها الرواية هي عملية اغتصابٍ جماعية نفذها عددٌ من الجنود بحق مجموعة من الفتيات الأسيرات

قدَّم روبرتسون فريزيرو في "بعيدًا عن القرى"، عملًا روائيًا لا يحكي بقدر ما يسعى إلى تصوير آثار حادثةٍ معينة على ضحاياها: حادثة اغتصاب مارية وما خلَّفته داخلها من مشاعر دائمة بالخزي والعار واحتقار الذات، ومن ثم حادثة اكتشاف ابنها إيمانويل أنه ثمرة عملية الاغتصاب تلك، وآخر ما يذكِّر والدته بها.  

اقرأ/ي أيضًا: تُرجم قديمًا: جنة عدن

وبينما نعاين في الرواية أحوال مارية النفسية تحت وطأة ما تستعيده ذاكرتها، تنتهي الحكاية عند معرفة إيمانويل بما أرَّقه وأفسد عليه حياته، دون أن يتاح لنا الاطلاع على طبيعة شعوره وأحواله تحت وطأة الحقائق المؤلمة التي وجد نفسه أمامها فجأة. والسبب، ربما، هو رغبة روبرتسون فريزيرو في أن يشاركه القارئ عملية تأليف أو إكمال العمل عبر تخيُّل الجزء المفقود منه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

على هامش رواية "المنذور": رحلةُ البحث عن المرايا

ماذا نقرأ في حزيران/ يونيو؟ 8 روايات مقترحة