27-مايو-2024
زياد العناني

الشاعر الأردني زياد العناني (1962 - 2024)

توفي قبل يوم أمس السبت، 25 أيار/مايو الجاري، الشاعر الأردني زياد العناني (1962 – 2024)، الذي قضى سنواته الـ13 الأخيرة برفقة المعاناة نتيجة تداعيات وآثار الجلطة الدماغية التي أصابته في 28 آب/أغسطس 2011، وأفقدته القدرة على الكلام والحركة، وغيَّبته عن المشهد الشعري قسرًا.

زياد العناني علامة فارقة في المشهدين الشعريين الأردني والعربي. الشاعر المولود في بلدة ناعورة قرب العاصمة عمّان، عام 1962، أسس تجربة فريدة تنطوي على رغبة وطموح بالتحديث والابتكار، فكان منجزه الموزَّع على 8 مجموعات شعرية تعبيرًا عن هذه الرغبة واستجابة لهذا الطموح.

نشر العناني ديوانه الأول "إرهاصات من ناعور" سنة 1988. وبعد 12 عامًا، صدرت مجموعته الاستثنائية "خزانة الأسف" (2000)، وتبعتها: "في الماء دائمًا وأرسم الصور" (2002)، و"كمائن طويلة الأجل" (2003)، و"مرضى بطول البال" (2003)، و"تسمية الدموع" (2004)، و"شمس قليلة" (2006)، و"زهو الفاعل" (2009).

زياد العناني علامة فارقة في المشهدين الشعريين الأردني والعربي، وأحد أبرز شعراء قصيدة النثر في العالم العربي

وكرّس الراحل نفسه عبر مجموعاته هذه كأحد أبرز شعراء قصيدة النثر في العالم العربي. كما أراد من خلالها بناء سيرة تقترب من الفكر حينًا، وتنحو باتجاه ما هو نفسي وداخلي في حين آخر. لكنها كانت، على الدوام، تدور مدار التجديد والتحرر من السائد وقيوده، ما منح قصائده نبرة فريدة بدت بفعلها، في جانب منها، إدانة للمألوف ودعوة ضمنية لتجاوزه.

وتُعتبر "خزانة الأسف" أساس تجربة العناني لا لأنه أسقط "إرهاصات من ناعور" من تجربته، وإنما لأنها حملت صوته ونبرته وفكرته وعبّر فيها عما يود قوله وما سيتكرر في ما سيأتي بعدها. والمجموعة ضمّت عمومًا قصائد قصيرة أو ما يُعرف بـ"التوقيعة".

وانطوت هذه القصائد على احتجاج وألم وحرقة ستميّز معظم قصائد الراحل. وبحسب الكاتب والناقد الأردني محمد عبيد الله، فقد عبّر زياد العناني في مجموعته هذه: "كما في مجموعاته اللاحقة التي ظل يخرجها تباعًا من الخزانة نفسها، تعبيرًا متينًا ومؤلمًا في الوقت نفسه عن دراما الإنسان في وجوده الناقص الشقي، منتبهًا بقوة إلى أهمية التقاط المفارقة الثاوية في مواقف الحياة وتفاصيلها، محيلًا دومًا صورها وأشكالها الجديدة إلى أصلها الشقي نفسه، ومن خلال ذلك كرّس ضربًا جديدًا من شعر (الفكرة) يقوم على تخييل (المعنى) وليس تخييل (الصورة)".

والحرقة في قصائده ملازمة للألم الذي يطغى على مجمل منجزه الشعري. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن بعض مجموعاته مُنعت في الأردن بقرار من "دائرة المطبوعات والنشر"، ومنها "خزانة الأسف". وكان الراحل قال في تصريح عقب منع الدارة نفسها لأعمال الروائي والشاعر إبراهيم نصر الله الشعرية، إن: "الرقيب في بلادنا لا يزال ينصب نفسه قاضيًا وجلادًا في وقت واحد".

ولم تكن كتابات العناني بعيدة عن نقد السلطة ونقد المجتمع، ذلك أن الألم الذي تنطوي عليه قصائده هو في نهاية المطاف نتاج واقع أنتجته السلطة.

فيما يلي بعض من قصائده.


حدائق الطاغية

(1) 

خاننا الخيالُ

ولم نرَ صفاته المخبأة

خُدعنا 

بفكرة الرضا

كذبنا

وقلنا قرين الضآلة، وهو أكبر من يد تستمتع بالقتل

وأكبر من سلة ملأى بالسيئات، وأكبر من كلِّ هتاف

سيغيبُ في سلعهِ الطريِّ وأكبر من شكرنا المعطّل، 

وأكبر من تشابه أسْمَاء نلقيها عليه، وأكبر من وطن 

راسخٍ أو آخر سيجيء بالصدفةِ، وأكبر من ردة فعل 

ساحقٍ تردع العصيانَ بجملةٍ من القتلى.

(2)

قبله كانت الدنيا ملأى بالغامضِ وبالمحيّر

فامتلأت به، وها هي بملئها سعيدة بمن

يهدئ النافرَ ويحجُّ بنا إلى مسرى الدماء 

سعيدةٌ

جدا وتعانقُ حظّها.

أو ابتسمت لنا أمنيةٌ

أو فكرت بغير حزمة البرسيم 

وقالت: فاكهة!

*

 

بترا

(1)

دلّلوا الصخر

بمكرٍ

فما بالك بالأنثى

وهي تضرم النار

في شق المياه.

 

(2)

ذابوا

لم تلحظهم عينٌ

حين انسحبوا

لم يبق منهم غير المنحوت.

ذابوا

في السيق تمامًا

لا رواية لا قصيدة لا وصية

لا خبث ساسة

بياقات منشأة ولامعة

لا حرب

ولا غزاة.

حتما لو كان هناك غزاة لافتخروا.

الصخور وحدها، ما تزال ثابتة وتنتظر، ربما لنشج بها رأس التاريخ

الغامض، وننثر فداحة السر بإفشائه علنا، لعلنا نطل على محنة شعب كامل

غسل عن اليدين، عن القدمين، وكأنه رجس تحلل في المياه وانتهى.

(3)

كأن سماءً

انفرجت فجأة

ثم

أخذتهم ضيوف نحت إلى جهة من جهاتها.

(4)

بترا

بترا

جسد الوردة

على استحياء، تكشف نفسها.

قطعة، قطعة يسقط معنى الحرير عن الجسد: رأس، عنق، صدر،

بطن ظبي يختبئ بين أصابع الخجل.

فإذا باستدارة كاملة، وإذا بالناظر، ينقلب إليها ويجوز عليها، 

مستغربا كيف تفتحت، بين يديه في غياب أهلها متسائلا

كيف تبقّى هذا الجمال بلا وريث؟ وكيف تلوى كل هذا السحر

بلا ساحر في ضربات هذا الإزميل ذي المجسات الرائقة؟

*

 

كاهنُ ملح يلاعبُ خدرَ المستحمّات

(1)

ماء فضي

عبأته الأسطورة بالذنوب

فاستوى في حفرة انهدامه

باستماتة 

كاهن ملح

يخطب ودّ فم مرتخ، منخفض في بهائه، وغاطس

في عورة الخلق المتأججة.

(2)

لم يأت من عالم آخر، ولم يتصل ببحر، أو شقيق

وظل وحيدًا

كهدنة ماء، بين شقي الجفاف.

لم يكبر قط، ولم يتوسع، ولم يطغ، بل سخّر أصل معادنه الثمينة لكل أنوثة 

تستحم به، وهي فخورة بجرأة ذنبها. 

(3)

أعزل 

من قبل ومن بعد، وقيل ميت، لمجرد أنه تخفف من آفات البحار

ولم تدر به معارك، ولم تسجل فيه هزيمة، أو انتصار 

ولم يشهق بدم

أو كارثة مروعة، ولا هوت فيه سفينة غرقى،

ولا جنحت أخرى، لتطلق صرخات النجاة باكية.