11-مارس-2021

مكتبة دينية في شنقيط (Getty)

جمعتُ، وسأجمع أيضًا، من الكتب ما أعرف أنّ الحياة لن تتسع لتمنحني الوقت الكافي لقراءتها، لكنني أمنّي النَّفس بأنه إن لم يكن ثمة وقت فلم أحرِم يديَ من فرصة الملامسة؟

*

 

يزيد القارئ صفحات الكتب. حين يقرأ كتابًا صفحاته 200 أو 300 فإنه يقرأ ما هو أكثر من ذلك بكثير، لأن ما استنبطه منه، وما ربطه بكتبٍ أخرى، يجعل الكتاب ينمو ويكبر، ولو لاحقنا قرّاء كل كتّاب في العالم والتاريخ لوجدنا إلى جوار الصفحات المطبوعة آلاف الصفحات غير المرئية التي لا تحمل توقيع أحد.

*

 

قارئ الأزمنة القديمة محظوظ بالقلة. بإمكانه أن يُعلن لمحيطه، وبكل فخر، أنه قرأ كل شيء. لم يبق كتابٌ في زمانه ولا لغته (وربما في غيرها أيضًا) إلا وأتى عليه.

هذه القلة منحت قارئ تلك الأزمنة شرف ختمَ المعرفة حرفيًّا.

بينما نحن المحسودين بالكثرة في الكتب كما في كل شيء، يقتلنا الغيظ لأنّنا مهما قرأنا نبقى في أول درجات السُّلّم، ولا نشعر أن هناك صعودًا ممكنًا على الإطلاق.

*

 

كتب الكاتب والمربي الفلسطيني خليل السكاكيني بعد نهب كتبه في النكبة، ومكتبته مثّلت واحدةً من أهم المكتبات الخاصة في فلسطين: "الوداع يا كتبي".

عبارة تبدو عادية، وبإمكان أيّ أحدٍ أن يقولها، لكنّ من فقدوا كتبتهم في مختلف أنواع النكبات التي عرفها العالم يدركون أن خلف عبارة السكاكيني جنازةً لا تنتهي.

*

 

تقدّم حواشي الكتب نصوصًا هامشية، أحيانًا تكون لها قوة توازي المتون نفسها.

تكتب سهام عبد السلام، مترجمة كتاب إريك هوبزباوم "أزمنة متصدّعة"، في حاشية ترد في الصفحة التسعين تسهب فيها بالحديث عن الوجبة الهندية "دجاج تيكا بالماسلا": "أعلن خبير في الأغذية التي تباع في الشوارع أنّ هذا الطبق نشأ في البنجاب خلال السنوات الخمسين الماضية. ويرى آخرون أنّه نشأ في المطاعم الهندية الأولى في حي سوهو بلندن، على يد بريطانيين من أصل بنغلادشي خلال ستينيات القرن الماضي. اتضح من مسح أُجري في المملكة المتحدة أنّه الطبق الأكثر شعبية في المطاعم البريطانية، حتى أن وزير الخارجية السابق روبن كوك أطلق عليه لقب "الطبق الوطني البريطاني". وتباع بهاراته (الكاري - تيكا ماسالا) بكثرة في المملكة المتحدة. وتتجلّى سخرية التاريخ في أن الشركات البريطانية الآن تصدّر دجاج التيكا ماسلا إلى باكستان والهند وبنغلادش".

*

 

في درسه المملّ الذي نواظب عليه لأخذ الحسناتِ لا العلم، قال الشيخ إنّ المرء يقرأ يومَ القيامة حياته على شكل كتابٍ، بينما يعبر الصراط المستقيم، فيطولُ أو يقصر بحسب سماكة كتابه.

نملأ كتبَنَا بأقوالنا كلّها، سواء أطلقناها في المجالس، أو في الحَمّام، أو حتى في الهذيان أثناء النوم، ونملأها بأفعالنا التي تتحوّل أقوالًا على صفحات ذلك الكتاب ذي النسخة اليتيمة. أوضح الشيخ.

منذ سمع الصحابة بالأمر وضع كثيرٌ منهم حجارةً في أفواههم، لكي يتذكّر الواحد منهم إذا ما همَّ بالكلام بضرورة ألّا يزيد على نفسه صفحاتٍ ومسافاتٍ، في الكتاب والطريق.

كدتُ أسأل الشيخ هل تنبغي مراجعة كتب التاريخ لنعرف من أكلوا الحجارة من غياب أقوالهم عنها؟ ثم غيّرتُ رأيي، فما الفائدة في إضافة أسماء مخادعين محذوفين إلى أسماء البلهاء المذكورين؟

منذ ذلك الدرس الذي كسر الإملال، أقرأُ كل ما أقرأه جهرًا: اللوحة الإعلانية، لافتات المحلات التجارية، صفحات الكتب. أعيد القراءة مرّاتٍ مثل من يتمرّن على مسرحية، نافيًا القراءة الصامتة إلى الأبد، لتستطيع اللحظاتُ المنسيةُ العودةَ مرّة أخرى، في لعبةٍ تجبر الله على التحوّل إلى مهندس طرقاتٍ وناسخٍ لكتابي.

*

 

"قول يا طير" كتاب عظيم. كأنّه مصنوع لأجل ليالي عائلتنا المنفية. منذ قرأتُ للأهل إحدى حكاياته قبل سنوات حتى أدمنوا عليه، وباتت للكتاب حصة أساسية من كل لقاء.

لأجل هذا أصدّق أن هناك كتبًا تصنع رابط الدم وتعيد تعريف القرابة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

في أشياء القراءة والكتب

قارئٌ منفي وإستراتيجياته