05-أكتوبر-2015

صورة لــ كيفين كارتر في جنوب السودان 1993

تولّد الصورة أحيانًا صفعةً معنوية تتجه بشكل مباشر إلى وجه الإنسانية. تتشكّل بين فترات زمنية متنوعة، ولا يوجد لها أسباب غير معروفة أو غامضة، واضحة ومنطقية، أسبابها هي ما يحدث كل يوم في الكرة الأرضية.

عنيفة وقاسية هي الصور، إلى درجة أنها تُحدث هزات في مشاعر وإيمان المتلقين

تتشابه صورة الطفل الذي وجدَ ميتًا على أحد شواطئ تركيا مع تلك الصورة الذي التقطت منذ سنين لطفل في أفريقيا، حيث تنتظره النسور أن يموت من الجوع، لكي تبدأ وليمتها. صاحب صورة هذا الطفل هو المصوّر كيفين كارتر، الذي نال عليها جائزة بولتيرز للصحافة العالمية عام 1994. عنيفة وقاسية هذه الصور بشكل استثنائي، لدرجة أنها تُحدث هزات في مشاعر وإيمان المتلقين لتلك الصورة. صفعاتها تتسبب بالشعور بالألم الحاد والمفاجئ للمتلقين، سواء كانوا عائلة الطفل، أو سكان مدينته وموطنه، أو من أي مكان في أنحاء هذا العالم. ويصل تأثيرها أيضاً إلى المؤسسات الإنسانية وبعض الحكومات، وعادةً يبدأ شعور الصدمة على الفور بعد التلقي.

تعرّف الصدمة النفسية بأنها الجرح النفسي الذي يتشكّل نتيجة تعرض الإنسان إلى حادث ما أو ظرف معين، يرافقها عادة مشاعر مختلطة من العجز والاستسلام الأعزل، وتسبب اهتزازًا في فهم الذات والعالم. كما تبدأ الأسئلة بالظهور، فنقوم بطرحهاعلى أنفسنا ومن ثم على الآخرين: "هل ما حدث حقيقي؟ كيف حدث ذلك؟ من سمح بحدوث ذلك؟ يرافق ذلك توقٌ للحصول على إجابات مرضية. وفي فهم هذه الصفعة يلعب الإدراك العقلي، وهو القدرة على وعي الأحداث والمشاعر والظروف، دوراً مهمًا لدى المتلقين لكنه يكون نسبي ومتفاوت بن شخص وآخر. يسبب هذا الوعي موجة في إطلاق الأحكام والقناعات الفردية: "هذا العالم ساقط، عار على الإنسانية، هذه الصورة سوف تغير التاريخ وتبقى في الذاكرة إلى الأبد".. إلخ.

يأتي رد الفعل صادقًا على الصفعة (الفعل – موت الطفل غرقاً)، فالصدقية هنا شرطْية وليس اختيارية. الفعل سبب الألم والشعور بالعجز. سيأتي رد الفعل لكي يعبر عن الآلم الحاصل وليخفف الشعور بالعجز، تختلف ردود الأفعال فخياراتها غير محدودة ولا متناهية. ربما سوف يذهب الأب إلى مشفى للأمراض العقلية، أو سوف تعمى الأم من كثرة البكاء، ربما سوف ينتحر المصور الذي التقط الصورة كما انتحر زميله في السابق بعد أن صور الطفل في أفريقيا، ولكن الذي سوف يحدث بكل تأكيد هو مايلي: سيكتب الصحافون المقالات، وسترسم اللوحات وتصمم البوسترات، سَتخرج مظاهرات منددة بما حدث، يظهر هاشتاغ "#غرق_طفل_سوري" على وسائل التواصل الاجتماعية ويصُبح الأكثر انتشارًا، ستُرسل المساعدات الغذائية من قبل أطفال في مكان ما إلى أطفال آخرين في مكان آخر مثلما حدث سابقًا، سَينظم الشعر وتلحن الأغاني، سَتُرفع درجات الاستعداد لدى المنظمات والحكومات، سيعلن أحدهم أنه على استعداد لشراء جزيرة وآخر سوف يشتري بواخر لنقل اللاجئين، قرارات حكومية سوف تُنفذ اجراءات صارمة، تدخل فوري، لا بد من احتواء الصفعة.

سوف يقف لاعبو كرة القدم دقيقة صمت قبل بدء المباريات على روح الطفل الغريق. ولكي لا نكون متشائمين، سوف نرى بعض الجوانب الإيجابية لتلك الأفعال، حيث سيزيد عدد اللاجئين المسموح بدخولهم إلى بلدانهم الجديدة، وسوف يُعين مراقبون وإختصاصيون من كافة الاختصاصات، ستتحسن الظروف بشكل تدريجي وملحوظ.

تاريخ الإنسان لا تنتهي فيه الصفعات، فالصفعة هي انعكاس للواقع وأحد نتائجه المتكررة

التماهي مع الصفعة، يكون على شقين، لغويًا؛ وهو التمازج والترابط أو الانصهار، أما في علم الاجتماع فالتماهي يعني التقليد والتقارب العاطفي.. أما نفسياً، عند فرويد تحديدًـا فالتماهي يبدأ مع الطفل، فهو يتماهى مع والده أو والدته أو أحد المقربين منه، يتماهى لصعوبة تميز نفسه عن الآخرين. يتماهون مع الصفعة (موت الطفل غرقاً) ويَتولد عندهم شعور بالحزن على الطفل، يفوق حزن عائلته عليه بمرات عدة، يتماهون لدرجة أن يضعوا المسؤولية على عاتق العائلة. يشعر البعض بملكيته للصفعة، هي صفعتهم هم وليس لأحد آخر. ولا بد أن ننتبه أنّ الميديا أيضًا تحترف التماهي مع الصفعة. 

بعد مرور بعض الوقت، وتحسن الظروف قليلاً، وتقليل مخاطر تكرار الصفعة الأخيرة. سيظهر خطاب يرمي إلى التخليد لدى البعض؛ لنؤسس جمعية تحمل اسم الطفل، فلنحتفل بذكرى سنوية، لنطلق اسمه على شارع أو مدرسة. البعض من البشر، وأنا منهم، نمتلك ميول ورغبات لتخليد صفعاتتنا غير الخاصة. في النهاية، سوف يظهر الاحمرار على روح أحد ما في مكان، بفترات زمنية متقطعة، نتيجة لتلك الصفعة، سوف يشعر بألمها وحرارتها، وستلازمه طوال فترات حياته.

أما البقية، سوف ينتظرون الصفعة الجديدة أو سيتفاجئون من جديد بصفعة أخرى، ولكنه لا يدركون أن تاريخ الإنسان لا تنتهي فيه الصفعات، الصفعة هي انعكاس للواقع وأحد نتائجه المتكررة. الصفعة تتحول، شيئًا فشيئًا إلى وعي أيضًا.