24-نوفمبر-2022
رسام في الهند

رسام يضع اللمسات الأخيرة على لوحته في الهند

تجاوزت كونها مجرد لعبة لتتحوّل إلى منصة. ذلك سرّ شعبيتها الساحقة.

لأنّ كرة القدم تجمع أناسًا من خلفيات مختلفة معًا، وتزودهم بأسباب التواصل فيما بينهم والتعبير عن أنفسهم، يمكننا الحديث عن لعبة تخلق المجتمعات، أو تعيد تشكيلها، لما توفّره من فرص للجميع من أجل التطوير والتغيير في منحى إيجابي.

ولأنها تستطيع أن تُمتعنا وتُسعدنا باتت اختصارًا لمعنى الفرح وقوة العاطفة. فكم من شبهٍ بينها وبين الحياة التي تقوم على تحولاتٍ درامية مفاجئة، وتنعطف مساراتها انعطافاتٍ لا يمكن تخيّلها!

لأنّ كرة القدم تجمع أناسًا من خلفيات مختلفة معًا، وتزودهم بأسباب التواصل فيما بينهم والتعبير عن أنفسهم، يمكننا الحديث عن لعبة تخلق المجتمعات، أو تعيد تشكيلها

ولكونها تستطيع أن تُعلّمنا كما لم يفعل أيّ معلم من قبل، نتقبّل دروسها بحبٍّ لم نعرفه عندما كنا تلاميذ. ولعلّ درسها الأكبر لنا هو إعطاؤنا القدرة على التعامل مع الهزيمة بوصفها شيئًا مؤقتًا، بالإمكان التخلص منه بتوفر وعيّ حرّ وإرادة صلبة. هذا إلى جانب ما تمنحنا إياه من مساحات حرّة للتعبير عن مخاوفنا كجزء منا. وعدم منعها لنا من ارتكاب الأخطاء، لأنّ حكمتها المجرَّبة: ثمة تعاف بعد كلِّ سقوط.

هذه وغيرها من أسبابٍ هي التي جعلتها ملتقى للشعوب. فكلُّ مناسبة من مناسباتها فرصة للالتقاء بالآخر المختلف واكتشافه، إذ تبرز في هذه الحالات كأداة لتوحيد المختلفين ثقافيًا ولغويًا من خلال حبّ فريق، والتفاعل فيما بينهم.

إنها جزء مهم من ثقافتنا مجتمعاتنا المعاصرة، ولولاها لما اشتهرت رقصات التانغو والسامبا عالميًّا، ولا شكلّنا معرفةً ما عن بلدان ومجتمعات بعيدة عنا. ناهيك أنها لا تساعد في تحسين اقتصاد الدول وحسب، بل تساعد أيضًا في الحفاظ على تماسك الروابط، سواء بين أفراد العائلة أو الأصدقاء، أثناء تشجيعهم لفريقهم المفضل معًا.

ولأنها تخلق عالمًا من التنوّع اللغويّ والثقافيّ والفكريّ كما طمح إلى ذلك الأدب والفلسفة والفن. ولا يقتصر ذلك على اجتماع فرق الدول المختلفة، بل يمتد إلى تنوع الفرق الوطنية ذاتها. لأجل هذا لا يوجد رمز فعليّ للسلام أفضل منها. ألم تُلعب في موازاة اشتعال الحروب؟ ألم تُظهر قدرتها الخارقة على خلق تفاهمٍ دوليّ؟ ألم ترينا آلاف المرات لعب الأطفال المشردين بسبب الحرب، أو المعذبين بسبب الفقر، في إشارات ساطعة على قوة الحياة فيهم؟

إذًا، يحق لنا ان نحمّل كرة القدم هذه الحمولات كلها، ويحق لنا أن نراها ساحة للأصوات المتعددة وليست منبرًا للأقوياء والأغنياء فقط، كما هو الحال في السياسة والاقتصاد والإعلام. حيث يساء استخدام القوة دومًا، فنراها تتمركز على نفسها وعلى قيمها وفهمها للعالم، ولا تساعد سواها إلا اسميًّا في الوقت الذي تسعى فيه إلى حصد المزيد من المكاسب والهيمنة.

بسبب هذا لا نعرف عمّا يتحدث الغرب حين يتحدّث عن حقوق الإنسان؟ لماذا يتشبّث بحق دون سواه؟ ألأنَّ هذا الحق موضة الآن؟ أليس الهدف من صون حقوق الإنسان هو العمل على تكاملها، لا التركيز على أحدها وإهمال سواها؟

تحضر هنا فكرة طرحها الكاتب شادي لويس مؤخرًا، إذ علّق على تراجع الفرق الأوروبية عن حقها في دعم مجتمع الميم بسبب العقوبات التي لوّح بها الاتحاد الدولي لكرة القدم. تلك الفرق بدلًا من إكمال ما تؤمن به تراجعت لأنها غير مستعدة لدفع أي ثمن، أو تحمل أية عواقب. إنها "البطولات المجانية"، كما يقول لويس، التي تقابلها بطولات هائلة يتكبدها الرياضيون العرب الذين ينسحبون من بطولات كبرى كي لا يلعبوا مع إسرائيلي، فلا يخسرون نقاطًا وتتويجات فقط، بل يُعرّضون كل مسيرتهم الرياضية للخطر.

يرفض مونديال قطر 2022 اختصار دولنا إلى أنظمةٍ، وتنميطنا في فئاتٍ، ويبرز تنوعنا الحضاري أمام مقولة استشراقية متجانسة واستعلاء عرقيّ ثابت، وإن تجدّدت أشكاله

تبقى قيم كرة القدم أهم وأعلى من قيم دولها المهيمنة نفسها، فالفرق التي أصبح فيها لاعبون من خلفيات مهاجرة تعني أن المهاجرين صاروا جزءًا من المجتمع الجديد، ففي كلٍّ من الفريق الألماني والبلجيكي والفرنسي، على سبيل المثال، نجد نسبة عالية للاعبين الملونين. والآن حين تتحول الملابس العربية إلى موضة، كما سبق وأن أصبحت آلة فوفوزيلا موضة في مونديال جنوب أفريقيا، فذلك يعني أن الكرة تحطم المسافات بين الثقافات. هذا غير تحطيم الأفكار نمطية مثل أنّ الألمان هادئون وباردون، إذ تصبح غير منطقية مع مباراة ألمانيا واليابان، التي شهدت الكثير من العنف الألمانيّ، وفي النهاية مع خسارة الفريق بدأ اللاعبون يبكون مظهرين عواطفهم بكل وضوح.

لافت هو الإعلام الإسرائيلي في الدوحة الذي يستفز الشباب العرب ويتحرش بهم، ولافت بمقابل ذلك إصرار غالبيتهم على إظهار موقف متشبث بحقوق الشعب الفلسطيني، إلى جانب أهمية رفع الإعلام الفلسطينية على المدرجات بشكل لم تعرفه ملاعب المونديالات السابقة بسبب اقتصارها على جماهير غير معنية بهذه القضية.

تعلّمنا خلال سنوات الربيع العربي، الذي مثّل لشعوبنا مسارًا تحريريًّا ديمقراطيًّا، أن حقوق الإنسان ستكون ثمرة من ثمراته في نهاية المطاف، بما في ذلك حقوق مجتمع الميم، لكنّ تغيّر المسارات والثورات المضادة والغرق في بحار الظلامية والإرهاب واللجوء واليأس غيّرت كل المرتجى وأدخلنا في التيه. إلى أن جاء هذا المونديال ليقول إننا نمتلك القدرة لنفعل ما يضيف إلى العالم الذي نعيش فيه، ولدينا القابلية لنكون إحدى النكهات الممكنة فيه. ثم جاء فوز السعودية ليقول ما هو أكثر: يمكننا أن نكون.

إذا كان الربيع العربي أبرز الشعوب وتطلعاتها أولًا، فإن هذا الحدث الرياضي الذي يبرز الجماهير العربية المتحمسة لفرقها وقضاياها العادلة، وأبرزها فلسطين؛ يرفض اختصار دولنا إلى أنظمةٍ، وتنميطنا في فئاتٍ، ويبرز تنوعنا الحضاري أمام مقولة استشراقية متجانسة واستعلاء عرقيّ ثابت، وإن تجدّدت أشكاله.