30-يناير-2024
عبد العزيز الرنتيسي في أن الشهداء رأسمال رمزي

الرنتيسي.. في أن الشهداء رأسمال رمزي

الرنتيسي.. في معنى أنه لا يمكن أن نحسب الشهداء على قائمة الخسارة

تعيد الأحداث الجارية في غزة إلى الواجهة أسماءً ليست من مكونات المشهد الراهن واقعيًا، لكنّها حاضرة فيه رمزيًا ومعنويًا بصور شتّى. ومن بين هذه الأسماء اسم عبد العزيز الرنتيسي الذي قفز اسمه إلى الواجهة من جديد، بالتزامن مع العدوان الإسرائيلي المستمر على القطاع المحاصر. وليس صعبا ربط هذا الاستحضار بما يجري، فالرنتيسي نشأ وترعرع في مدينة خان يونس التي تتركّز فيها العمليات القتالية حاليًا، كما عمل في مستشفى ناصر الذي عزلته القوات الإسرائيلية تقريبًا عن المدينة وتستعد لتكرر فيه سيناريو مستشفى الشفاء. فضلًا عن ذلك فالرنتيسي أحد القيادات التاريخية لحركة حماس، وتربط إسرائيل تحقيق أهدافها من الحرب، وعلى رأسها هدف تفكيك حماس وتحييد سلاحها، باغتيال قادة الحركة، وآخرهم اغتيال صالح العاروري بالعاصمة اللبنانية بيروت مطلع شهر كانون الثاني/يناير الجاري.

في السطور التالية نسلط الضوء على مسيرة الرنتيسي بدءًا من مولده في قرية يبنا، وتهجيره مع عائلته ليستقر بهم المقام في غزة وما اكتنف تلك التجربة من محطات وتحديات، مرورًا بانخراطه في الفعل المقاوم ضدّ المحتل وتجربته في المعتقلات والإبعاد إلى لبنان والعودة لغزة لقيادة حماس، وصولًا للحظة اغتياله عبر صاروخين أطلقتهما طائرة أباتشي إسرائيلية، أمريكية الصنع في الـ17 من نيسان/إبريل 2004.

 

المنعطف الغزّي

قبل النكبة بعام، وبالتحديد في الثالث والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 1947 وُلد عبد العزيز علي عبد الحفيظ الرنتيسي في قرية يبنا الواقعة بين عسقلان ويافا، لكن الرنتيسي لم يكتب له أن يلبث في مسقط رأسه سوى 6 أشهر، فقد اضطُرت أسرته لمغادرة قرية يبنا ليستقر بها المقام في غزة وبالتحديد في مخيم خان يونس للاجئين. وفي ذلك المخيم التحق الرنتيسي بمدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). 

ويبدو أن تجربة اللجوء من بين الأحداث الرئيسية التي صاغت شخصية الرنتيسي، وهي تجربة جديرة بأن تفعل ذلك. ففي نصها المعنون بـ "نحن اللاجئين" تعتبر حنه آرنت أن اللجوء مأساة مؤبدة جوهرها المعاناة والنسيان والنبذ والوصم. وقد استحضر الرنتيسي في مذكراته بعض جوانب المأساة بحديثه عن تجربة الفقر الذي اعتبره إحدى جرائم الاحتلال، مقارنا بين منزل الأسرة الجميل في "يبنا" ووضع الأسرة بعد ذلك في مخيم اللاجئين، حيث وُضعت، والتعبير للرنتيسي، بين "فكي الفقر يطحنها طحنًا". هذه الظروف اضطرت الرنتيسي إلى العمل مبكرًا في سن السادسة لمساعدة أسرته المكونة من والدين و9 أشقاء و3 شقيقات.

ومن بين الأحداث التي صاغت شخصية الرنتيسي أيضًا وبقيت عالقة في ذاكرته مذبحةُ خان يونس عام 1956 إبان العدوان الثلاثي، فقد حصدت آلة القتل الإسرائيلية في تلك المذبحة 525 فلسطينيًا جميعهم من المدنيين، يذكر الرنتيسي أن جثثهم تعفنت في شوارع المخيم.

أنهى الرنتيسي عام 1965 دراسته الثانوية، ليتوجه للإسكندرية حيث التحق بجامعتها التي درس فيها الطب. وفي عام 1971 عاد الرنتيسي إلى القطاع مجددًا، ليلتحق بالعمل في مستشفى ناصر المستشفى الرئيسي في خان يونس، وهناك خاض الرنتيسي مع زملائه إضرابًا في المستشفى احتجاجًا على تعمد إدارة الصحة منعهم من السفر لإكمال دراساتهم العليا. وبالفعل تمكن الرنتيسي من العودة للإسكندرية، حيث حصل على الماجستير في طب الأطفال، ليعود مجددصا إلى القطاع عام 1976 لمزاولة عمله كطبيب في مستشفى ناصر، قبل أن تمنعه سلطات الاحتلال من العمل فيه نهائيًا سنة 1984. وقد سبق قرار المنع ذلك مضايقات كثيرة من سلطات الاحتلال، على إثر انخراط الرنتيسي في إضراب الجمعية الطبية احتجاجًا على الضريبة المضافة، ورفضه دفع الضريبة لسلطات الاحتلال، وهو رفض يعدّه في واقع الأمر رفضًا للاحتلال، معتبرًا في مذكراته أنّه "لو تمرد الشعب الفلسطيني عن دفع الضريبة وطور الأمر إلى عصيان مدني لضاق الاحتلال بذلك ذرعًا".

بعد تجربة مستشفى ناصر التحق الرنتيسي بالجامعة الإسلامية في غزة محاضرًا منذ عام 1986.

في 21 نيسان/إبريل 1997 باشر الرنتيسي قيادة حركة المقاومة الإسلامية "حماس".

 

الانتماء الفكري وتأسيس حماس  

يقول الرنتيسي في مذكراته إنه تأثر في وقت مبكر من حياته بدعوة الإخوان المسلمين، وبالفعل قاده ذلك التأثر إلى الانتساب للحركة دون تحديد تاريخ ذلك الانتساب. وبسرعة أصبح الرنتيسي أحد قادة الحركة في قطاع غزة، وكان إلى جانب أحمد ياسين وصلاح شحادة أحد مؤسسي حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في غزة عام 1987. إذ يؤمن، كما يقول في مذكراته "أن فلسطين لن تتحرر إلا بالجهاد".

يذكر الرنتيسي أنّ تأسيس حماس جاء بعد حادثة المقطورة التاسع من كانون الأول/ديسمبر 1987 كعنوان للعمل الانتفاضي الذي يمثل الحركة الإسلامية في فلسطين. 

ويعتقد الرنتيسي أنّ أهم عوامل نجاح الحركة كونها "حركة عقائدية إسلامية"، مضيفا القول إن "عقيدة حماس الجهادية ميزان صدق لنا مع الجماهير".

 

تجارب الاعتقال والإبعاد

بدأت تجارب الرنتيسي مع الاعتقال في العام 1982، وكان سبب الاعتقال حينها رفضه تأدية الضرائب لسلطات الاحتلال، تجاوبًا مع دعوة الجمعية الطبية إلى إضراب ضد الضريبة المضافة.

بعدها بـ 6 سنوات، وبالتزامن مع الانتفاضة الأولى عادت سلطات الاحتلال لتعتقل الرنتيسي في الـ15 من كانون الثاني/يناير 1988، لمدة 21 يومًا. وأعادت سلطات الاحتلال الكرة مرة ثالثة بتاريخ 4 آذار/مارس 1988، وفي هذا الاعتقال الثالث مكث الرنتيسي مدة عامين ونصف العام، بتهمة المشاركة في تأسيس وقيادة حركة حماس وصياغة المنشور الأول للانتفاضة الفلسطينية.

وفي الـ 14 من كانون الأول/ديسمبر 1990 اعتُقل الرنتيسي مرة رابعة إداريًا لمدة عام كامل، قبل أن يطلق سراحه في 4 سبتمبر 1990 ليعاود الاحتلال اعتقاله بعدها بحوالي 3 أشهر وتزيد قليلًا في 14 ديسمبر 1990.

من أقوال الرنتيسي: "أن فلسطين لن تتحرر إلا بالجهاد".

الإبعاد من غزة

أبعدت سلطات الاحتلال الرنتيسي من غزة في الـ27 ديسمبر 1992 برفقة 416 من نشطاء حماس والجهاد الإسلامي إلى جنوب لبنان، كحلّ أخير على ما يبدو للصداع الذي يتسبب به وجودهم في غزة، لكن جرت الرياح بما لا تشتهي سفن الاحتلال، فقد رابط المبعدون في مخيم العودة في منطقة مرج الزهور رفضًا لقرار الإبعاد، مصرّين على ضرورة العودة إلى فلسطين. وخلال هذه الفترة برز الرنتيسي كناطق رسمي باسم المبعدين الذين نجحوا في كسر قرار الإبعاد والعودة إلى غزة. لكن سلطات الاحتلال استقبلت الرنتيسي بأمر اعتقال جديد، تلاه إصدار محكمةٍ عسكرية إسرائيلية حكمًا بسجنه لمدة 3 سنوات ونصف. 

وبالإفراج عنه 21 نيسان/إبريل 1997 باشر الرنتيسي قيادة حركة المقاومة الإسلامية "حماس".

 

قيادة حماس

تولى الرنتيسي قيادة حماس في فترة صعبة كانت فيها الحركة قد تلقت ضربة مؤلمة من السلطة، وتعاني من صعوبات أمنية ومالية، تفاقمت أكثر مع قيام السلطة الفلسطينية باعتقال الرنتيسي في الـ10 من نيسان/إبريل 1998 بضغط من سلطات الاحتلال، إذ أمضى في المعتقل 15 شهرًا، قبل أن يفرج عنه إثر وفاة والدته وهو في المعتقل. لكن مسلسل الاعتقالات عاد من جديد، فقد اعتقل بعدها 3 مرات، خاض في التجربة الأخيرة منها إضرابًا عن الطعام وتعرض فيها السجن المركزي الذي كان معتقلًا فيه للقصف من طرف طائرات إسرائيلية.

وككل سجن، كانت المعاناة حاضرة، خاصة أن الرنتيسي أمضى معظم أيام اعتقاله في سجون الاحتلال وكل أيام اعتقاله في سجون السلطة في عزل انفرادي.

وقد وثّق جانبًا من تلك المعاناة في دفق "نثري وشعري" إذ يقول: "مكثت في زنزانتي خلف الأبواب الموصدة أحمل أشواقًا تكاد تكون قد تحولت إلى أشواك، أتوق لرؤيتها ثانية، واهتبلت الفرصة، وامتشقت القلم، وصورت مشاعري في أبيات من الشعر، كان ذلك عام 1996 والقصيدة بقول: 

رأيت النور يضحك في ضُحاها

ويسطع في دجى الدنيا سناها

وطيبٌ من أريج المسك تزكو

به النسمات بعضٌ من شذاها

وتبسط زهرة الحنون خدًّا

عسى تقرّبه تقبيلًا شفاها

ولولا ثقلة القيد امتطينا

لأسمى كل صعب كي نراها

 

مقال عن عبد العزيز الرنتيسي
رسمة جدارية تجمع الشيخ الياسين مؤسس حماس والرنتيسي قائدها من بعده

 

اغتيال الرنتيسي

ظلّ الرنتيسي في الفترة التي سبقت اغتياله بشهور مطاردًا ينتقل من منزل إلى آخر بطرق خفية ومستعصية، حسب شهادة نجله محمد، الذي أكّد أن والده ومنذ مبايعته خليفة للشيخ أحمد ياسين امتنع عن الذهاب إلى بيته في حي الشيخ رضوان، وكان يعيش في مقارّ سرية آخذًا أعلى درجات الحيطة والحذر ولا ينتقل إلا نادرًا، إلا أنه عاد أخيرًا فجر السابع عشر من نيسان/إبريل إلى منزل العائلة بعد أخذ علمًا أن أخاه وابنته إيناس وصلا للاطمئنان عليه، وقرر أن يقضي عدة أيام مع أبنائه وزوجته دون أن يخرج، لا سيما بعد فشل محاولة اغتياله في حزيران/يونيو 2003 واغتيال الشيخ أحمد ياسين آذار/مارس قبل شهر من اغتيال الرنتيسي.

عصر يوم الاغتيال وصل مرافق الرنتيسي أكرم نصار إلى منزل الأسرة، واتفقا على الخروج، حيث استقل الرنتيسي سيارة من نوع سوبارو كان يقودها ابنه أحمد الذي أوصله إلى نقطة معينة، انتقل منها إلى سيارة أخرى من نوع سوبارو أيضًا كان فيها مرافقه أكرم نصار ويتولى قيادتها أحمد الغرة الذي كان ينشط في القسام بشكل سري، وفي الطريق إلى هدفها غير المحدد باغت الجميع صاروخان من طائرة أباتشي إسرائيلية، حولا السيارة إلى ركام ومن فيها إلى أشلاء. 

وفي صبيحة اليوم الموالي كانت كبريات الصحف الإسرائيلية تتوقع أن اغتيال الرنتيسي الذي جاء في غضون شهر من اغتيال أحمد ياسين سيحدث فراغًا كبيرًا في حركة حماس، وسيؤثر في عملها على المديين المتوسط والبعيد، خاصة أنها كانت تعاني حينها من ضائقة اقتصادية صعبة بحسب تقديرات الإسرائيليين، الذين كانوا أيضًا يقولون إن الرنتيسي استدعى إيران وحزب الله ليكونوا أولياء على حماس في غزة. 

وما تزال العقيدة العسكرية والأمنية الإسرائيلية إلى اليوم تؤمن بأن إسقاط قادة حركة حماس كفيل بتفكيكها وتحييدها، لكنّ الرنتيسي نفسه عندما سئل عن تأثير فقدان الحركة لقادة مثل صلاح شحادة وإبراهيم المقادمة وإسماعيل أبو شنب وجمال منصور، قال بالحرف إنه "في الثورات والمواجهات التي تقوم بين حركة إسلامية كحماس وعدو صهيوني، لا يمكن أن نحسب الشهداء على قائمة الخسارة، فنحن أمام مشروع كبير وأهداف كبيرة للتحرر الوطني، على رأسها تحرير الوطن واستقلال الشعب الفلسطيني، ولا يمكن أن نقول إن استشهاد بعض القيادات يمثل خسارة كبيرة أمام الأهداف الكبيرة التي نسعى لتحقيقها، فالأهداف الكبيرة تحتاج لتضحيات كبيرة".