02-فبراير-2021

أورهان باموك مع ابنته رؤيا خلال حفل تسلم جائزة نوبل 2006

هل ثمة لونٌ للحزن؟ وهل ثمة وقتٌ ينزل فيه الحزن على القلب والروح؟ كيف يكون لونه؟ أشعر، وأنا في هذا الحظر الصحي، وأنا أقرأ كتاب "ألوانٌ أخرى" (Other Colors) للروائي التركي الحاصل على جائزة نوبل للآداب أورهان باموك أنّ الحزن عدوى ترى شيئًا محزنًا فيتسرّب الحزن الى نفسك، تسمع لحنًا ما، أغنيةً، ذكرى صديق أو عزيز رحل عن دنيانا، تأتيك ذكراه مثل طائر وحيد محاصر في غرفة، ليس ثمة منفذ، ثم يحطّ على حافة النافذة المغلقة، ويتأملك، وتتعرف فيه على أمٍ أو شقيق أو أب أو صديق، غادر الفردوس، وضع لنفسه ريش طائر وجاء ليراك، اعلموا أن ما من طير يحط قبالتكم ويطيل النظر إليكم، إلا كان حبيبًا فارقتموه، احسنوا الحزن في حضرتهم!

الحزن عدوى ترى شيئًا محزنًا فيتسرّب الحزن الى نفسك، تسمع لحنًا ما، أغنيةً، ذكرى صديق أو عزيز رحل عن دنيانا، تأتيك ذكراه مثل طائر وحيد محاصر في غرفة

اقرأ/ي أيضًا: أورهان باموق.. تراجيديا إسطنبول

خذ هذه الجملة من كتاب، الرائع باموك، عنوانها "عندما تحزن رؤيا"، ورؤيا، هي ابنة أورهان باموك، الوحيدة، من وزجته التي أنفصل عنها، يقول في فقرة عميقة عن الحزن، سأورد النص بالإنجليزية ثم أترجمه للعربية:

“Do you know what, darling? When you are this sad, I'm sad too. I feel as if there is this instinct buried somewhere deep inside me in my body, my soul, well, somewhere: when I see you sad, I get sad. It's as if some computer inside me says, when you see that Ruya is sad you get sad too”.

"هل تعلمين ماذا، يا عزيزتي؟ عندما تكونين بهذا الحزن، أحزن أنا أيضًا، أشعر كما لو أنّ غريزةً مدفونةً عميقًا، في مكان ما، من جسدي وروحي، حسنًا، في مكانٍ ما: عندما أراك حزينةً، أحزن أنا أيضًا، مثل كمبيوتر، في داخلي، يقول: عندما ترى، رؤيا، حزينةً، ستكون أنت حزينًا أيضا".

يرى باموك رؤيا، متكورةً على سريرها، تدخل في نوبة حزن فادح، هي صغيرةٌ عليه، فيحار في إسعادها وإخراجها من هذا الحزن، يقترح أن يلعبا النرد، يدعها تختار لونًا تحبه: الأخضر، يختار هو اللون الاحمر، يدعها تغلبه، ثم يفكّر: "يجب على هذه الفتاة أن تتعلم معنى الخسارة! سأغلبها ولو لمرةٍ واحدةٍ"، لا يعجبها ذلك، ترجع الى حزنها، يقترح أن يلعبا سوية لعبة القفز على الأثاث في المنزل، شريطة أن لا تلامس قدم المتسابق الأرض، في طريقهما، يطيحان بكل شيء: بعض السلال، مصابيح منضدية، جرائد قديمة، هذا أيضًا لا ينفع، ثم فجأة يستمع، وهو في كرسيه، وهي على فرشتها، ولم يكونا قد تكلّما لوقت طويل، أقول يستمع هو إلى خطى نورس بحري على السقف.

يقول: "تعرّقت عليه من طقطقته، ثم ينظران، كلاهما إلى الطائر الذي صار قبالتهما، هو يقول، بفرح، ما أجمل هذا، وهي تقول، بحزنٍ، ما أجمل هذا!".

كان الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير، صاحب رواية "مدام بوفاري"، يرى كاتب القصة القصيرة الفرنسي الآخر غي دي موبوسان، يراه على الدوام حزينًا، حتى نعته بـ"الثور الحزين"!

ترى لم كان الكاتب موبوسان حزينًا؟ كانت نوبات الحزن المفاجئة هذه، تداهم، كائنًا استثنائيًا آخر، هو وليم فولكنر، كان فولكنر، يجد عزاءه في الشراب، يعرف أهل الحي الذي كان يقيم فيه ذلك، حتى أن، استاذ اللغة الإنجليزية في ثانوية المدينة، طلب من الطلاب كتابة موضوع عن الروائي وليم فولكنر، ولم يكن السيد فولكنر وقتها قد حصل على جائزة نوبل للآدب، فبادر أحد الطلاب مستفسرًا: "سيدي، هل قصدت السيّد، وليم فولكنر، جارنا في الحي، ذاك الثمل على الدوام؟".

كان غوستاف فلوبير يرى كاتب القصة القصيرة غي دي موبوسان حزينًا على الدوام، حتى نعته بـ"الثور الحزين"!

مرة في عام 1990، كان يوم مواجهة السجناء لأهليهم، كنّا نقف في الباحة الكبيرة خارج القواويش، كنت والصديق الكاتب الكبير الراحل محمود جنداري واقفين مع المستقبلين، ننتظر قدوم عائلتينا مع عوائل السجناء الآخرين، قال: "نعيم، إذا رأيت جمعًا من الناس وقد تحلّقوا على شخص وقع أرضًا، فاعلم إنهم قد تحلقوا حول زوجتي أم فوزي، هي لا تتحمل رؤيتي في هذا الحال"!

وكان حزينًا بشكل جلي قلت: "ألهذا أنت حزين أبا فوزي؟"، قال: "وهل هناك شيءٌ يدعو للفرح، كل ما حولنا يدعو للحزن".

اقرأ/ي أيضًا: ماكس بورتر.. الحزن شيء مغطّى بالريش

في تموز/يوليو 1995، كنت أقرأ خبر رحيل ثلاثة من كتّاب العراق في جريدة الجمهورية، كان الثلاثة: محمود جنداري، الدكتور علي الوردي، والقاص إسماعيل عيسى.. كان الوقت مساء في الديوانية، ذهبت إلى البيت، شيءٌ ما في روحي قد تحطم، لم أكن سوى مخلوق بوغت بمفاجئة دنيئة من القدر، كنت مهزومًا من دون عدالة، ها أنذا أخسر صديقًا حبيبًا ونبيلًا، حين وصلت البيت، كانت مشاعري عجماء، قالت لي أمي وقتها: ها يمّه شبيك؟ لم أستطع الكلام، كانت عيناي تتتابعان، بلا رغبة التلفاز، وكان يذيع موسيقى حزينة لأغنية للمطرب راغب علامة، وبينما موسيقى الأغنية تصلني بنبرة متعاطفة، سمعت أمي تسأل: يمّه نعمان شبيك؟ نظرت إليها، وأحسست أن دموعي تنزل بحرية، تنزل كما ينبغي لها أن تفعل حين يرحل صديق حقيقي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

صحراء غرفة النوم

متى ستقبلُ يا ربيع؟