25-مايو-2024
بعد حملات تضامن مستمرة لعائلات الضحايا اعترفت الحكومة البريطانية بالمسؤولية عن هذه الكارثة الصحية (GETTY)

بعد حملات تضامن مستمرة لعائلات الضحايا اعترفت الحكومة البريطانية بالمسؤولية عن هذه الكارثة الصحية (GETTY)

بعد سبع سنوات من التحقيقات، اعترفت الحكومة البريطانية بـ"خطأ القائمين على قطاع الصحة والسلطة السياسية حينئذ"، فيما يعرف بـ"فضيحة الدم الملوث"، التي أودت بنحو 3 آلاف شخص في بريطانيا بين سبعينات وتسعينات القرن الماضي.

وقدم رئيس الحكومة البريطانية ريشي سوناك وزعيم المعارضة وحزب العمال كير ستارمر، اعتذارهم عما اقترفته الحكومات المتعاقبة فيما يخص عن هذه الكارثة الصحية.

وأصدرت الحكومة البريطانية قرارًا رسميًا بتعويض من بقي على قيد الحياة من ضحايا الكارثة وأفراد عائلات من قضوا نتيجة "الدم الملوث"، الذي أدى إلى الإصابة بفيروس نقص المناعة المكتسب وأمراض التهاب الكبد الوبائي.

الاعتراف البريطاني وقرار التعويض نتيجة قضية "الدم الملوث" جاء بعد سنوات طويلة من الاحتجاج والمطالبة بالتحقيق

وتشمل التعويضات 4 آلاف شخص، وهو ما يكلف خزينة الدولة ما يزيد على 10 مليارات جنيه إسترليني (13 مليار دولار)، لكن عائلات الضحايا، ردوا على قرار الحكومة، قائلين: إن "المال لن يعيد عقارب الساعة للوراء، والألم الذي عاشوه لن يزول بطرفة عين". في حين أكد محامو عائلات ضحايا أن "التفاوض حول قيمة التعويضات لم ينته بعد، ولن يدخروا جهدًا في تمكين موكليهم من المقابل العادل لمأساتهم".

من جهته، قال القاضي السابق براين لانغستاف، الذي قاد التحقيق: إن "هذه الفضيحة، التي سُجلت فيها إصابة آلاف الأشخاص بفيروس التهاب الكبد الوبائي "سي" وفيروس نقص المناعة المكتسب، بعد خضوعهم لعمليات نقل دم، كان من الممكن تجنبها"، وأضاف "حجم ما حدث كان مرعبًا".

وحمل لانغستاف الحكومات المتعاقبة المسؤولية بالدرجة الأولى، بسبب تأخرها في التحرك بعد الكشف عن الفضيحة، وإصرارها بالمضي في الخطأ، حين أكدت في مناسبات لاحقة أن المرضى تلقوا أفضل طرق للعلاج.

وجاء التقرير الذي أصدره القاضي لانغستاف في 2527 صفحة، وتضمن شهادة 1270 ضحية و100 ألف وثيقة تثبت أن "الحقيقة كانت مخفية لعقود من الزمن". وخلص إلى أنه كان من الممكن تجنب "فضيحة الدم الملوث" إلى حد كبير، لكن كان هناك من تستر لإخفاء الحقيقة.

وتعود مجريات القضية إلى أعوام السبعينات وبداية التسعينات القرن الماضي، حين أصيب أكثر من 30 ألف شخص يعانون من الهيموفيليا، أو خضعوا لعمليات جراحية، ونتج عنها إصابة بفيروس التهاب الكبد الوبائي "سي"، أو فيروس نقص المناعة المكتسب "الإيدز"، بعد خضوعهم لعمليات نقل دم شملت عيّنات واردة بشكل أساسي من الولايات المتحدة.

وينقسم الضحايا إلى قسمين: الأول، شمل أكثر من 1250 ضحية كانوا يعانون صعوبة في تخثر الدم، فاستوردت الحكومة البريطانية خلال سبعينيات القرن الماضي نحو 50% من احتياجاتها لـ"بلازما الدم" من الولايات المتحدة لصناعة دواء لهذا المرض، لكن تبين لاحقًا أن الأمصال مليئة بفيروسات نقص المناعة المكتسب والتهاب الكبد الوبائي. إذ كانت الولايات المتحدة تدفع أموالاً للمتبرعين، مما جذب أشخاصًا مصابين بفيروسات نقص المناعة والتهاب الكبد.

أما القسم الثاني، فضم آلاف المرضى في المستشفيات الحكومية خلال السبعينات وحتى منتصف الثمانينات، الذين قدم لهم "دم فاسد" يعاني المشكلات ذاتها، إما مستورد من الولايات المتحدة، أو تبرع به أشخاص يقضون عقوبات في السجون البريطانية ومدمنين على المخدرات بأنواعها المختلفة حينئذ.

وفي المجمل، فقد بلغ الضحايا المباشرون لنقل "الدم الملوث" وقتها ما يفوق 5 آلاف شخص، ولكن الأمراض التي أصيبوا بها انتقلت إلى عائلاتهم، فاتسعت رقعة المتضررين إلى أكثر من 30 ألف بريطاني، توفي 10% منهم، أما البقية فشكلوا حملات تضامن لإدانة "الإهمال الحكومي" بحقهم، والمطالبة بتعويضهم ماديًا ومعنويًا عما لحق بهم من ضرر.

وكان السبب المباشر في قضية "الدم الملوث" هو ضعف الرقابة والتدقيق على عمليات نقل الدم والتبرع به في مؤسسات القطاع الصحي، فلم تمنع بريطانيا نزلاء السجون الذين يدمنون المخدرات من التبرع بالدم حتى عام 1986، ولم تعتمد معالجة الدم حراريًا للتخلص من فيروس نقص المناعة إلا في العام نفسه، على رغم أن هذه التقنية عرفت أوروبيًا وعالميًا قبل ذلك التاريخ بأربعة أعوام، إضافة إلى أن الحكومة البريطانية لم تعتمد رسميًا اختبارات الكشف عن التهابات الكبد الوبائي حتى عام 1991.

ورغم الأخطاء الكارثية التي وقعت فيها الحكومة إلى أنها أخلت مسؤوليتها عما حدث، ففي عام 1983 أعلن وزير الصحة البريطاني حينئذ، كين كلارك، أمام البرلمان: أنه "لا توجد دلائل على انتقال مرض نقص المناعة المكتسب عبر التبرع بالدم".

وبعد تصريح وزير الصحة بأقل من ستة أعوام قالت رئيسة الوزراء وقتها مارغريت تاتشر: إن "المصابين بالإيدز عن طريق نقل الدم يتلقون أفضل علاج ممكن في المستشفيات"، وهذا كان بمثابة أول اعتراف رسمي حكومي بالمشكلة وأول إقرار بأن مرض نقص المناعة المكتسب قد حدث خلال نقل عمليات نقل الدم.

وفي العام 2017، قررت الحكومة البريطانية، بقيادة تيريزا ماي، فتح تحقيق عام لتسليط الضوء على هذه المأساة، التي صُنفت على أنها "أسوأ كارثة طبية في تاريخ خدمة الصحة الوطنية البريطانية".