22-سبتمبر-2016

حليمة خداش في أرضها بعد 68 عاما من الرحيل القسري

في بيت صغير على قمة جبل مخيم الجلزون تسكن حليمة خداش صاحبة الـ80 ربيعًا، تستقبل ضيوفها مرتدية الثوب الفلسطيني وحاملة غصن زيتون صغير لتعرضه على كل من يدخل بيتها، تحمله بحذر فهو الذكرى الوحيدة التي جلبتها معها من رحلتها الأخيرة لقريتها المهجرة بيت نبالا الواقعة شمال شرق الرملة في الأراضي المحتلة عام 1948.

حليمة تكره أن تسمي الذهاب إلى "البلاد" في الداخل المحتل "رحلة"، تقول: "زمان كان الجميع في الجلزون يذهب، وجميعهم رأوا البلد والبيوت قبل هدمها، قالوا لي روحي رحلة، ولكن احنا رحلنا وهون رحلتنا، هناك نعود وين بدي أروح، بس لما كبرت أجا ع بالي أشوف البلاد وأشوف أراضينا".

كثير من اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية استفادوا من تسيير رحلات خلال عيد الأضحى لزيارة منازلهم وأراضيهم قبل النكبة

"حتى التراب هناك غير" تقول حليمة عن بيت نبالا، "يا ريت قدرت أجيب معي شوية نزرع فيهن نعنع من ريحة البلاد، كان نفسي أروِّح معي حبتين صبر لابني يوسف اطعميه من صبر بلادنا بس ما قدرت، لكن روحت معي قصفة الزيتون هذه، ذكرى من بلادنا الي مسحوها عن الأرض".

اقرأ/ي أيضا: صنّاع النكبة الفلسطينيون

تغلق عينيها لتحيي في مخيلتها تفاصيل عودتها ثم تشير بيدها وتقول: "بنمشي جهة الغرب بنلقى دار عمي حسين، ودار عمي حسن، ودار عمي مصطفى، وهون كانت دار عمي ذيب، ولتحت دار حسن حسان ويقابلها الدكان وهون بير حسين وهناك بير القصعة، وهون دارنا، هاي هي دارنا".

حليمة خداس

تفتح عينيها وقد ملأتهما الدموع، ثم تكمل بصوت مليء بالحسرة: "رحنا ملقيناش البلاد، لو موجودات بروح عليهن ما في أثر لهن بس بعرفهن كلهن، سألوني كيف، قلت لهم الآبار عرفتني، هي الي دلتني".

طارق البكري صاحب مشروع "كنا وما زلنا" التوثيقي الذي يتطوع بمساعدة اللاجئين في الوصول لقراهم المهجرة، رافق حليمة في زيارتها الأخيرة، يحدثنا أن بيت نبالا على وجه التحديد تم مسحها تمامًا، "وهذا ما يخلق صدمة في قلوب من يذهب إليها من سكانها المهجرين، حيث لم يبق منها إلا مدرسة أصبحت مشتلاً، وبعض الآبار في القرية، وقبور متناثرة".

ويضيف البكري لـ "ألترا صوت"، "صحيح أنها ممسوحة ولكن هذه التفاصيل الصغيرة التي بقيت صامدة إلى اليوم هي التي ساعدت حليمة ورفيقاتها في تذكر ملامح القرية وبيوتها".

تحكي لنا حليمة أنها بمجرد وصولها للقرية ورؤيتها على وضعها الحالي، بدأت تشعر بالحسرة على البلاد التي خرجت منها وهي في الثالثة عشر من عمرها، ولكن هذه الرحلة دفعتها لتذكر تفاصيل صغيرة مر عليها الزمن ونسيتها. تقول: "هذه الرحلة ذكرتني أزود وأزود، متذكر جاراتنا وحارتنا والخربة، وكل المشاوير الي رحتهن، يا ريت لفيت في البلد قبل ما أطلع حتى أتذكرها كلها".

تتذكر حليمة أيضا قطعة القماش التي كانت ستخيط بها ثوبًا جديدًا، إلا أنها تركتها عند الخياطة بسبب تهجيرهم من القرية، "بتذكرها مثل اليوم لما طلعنا من البلد كان أول يوم برمضان، ضربوا قنابل شمال البلد هزتها هز وجنوبها، تركوا لنا بس الشرق والناس ماتت خوف، كل الناس طلعت ع الشوارع كان الشارع مليان أولاد تصرخ وتبكي، حافيين بدون أحذية وماشيين ع باب الله، مثل ما بتشوفوا بالتلفزيون".

ولم تنسَ حليمة رحلتها إلى البحر على الرغم من ذاكرتها الضعيفة، تضيف، "كنت صغيرة وأخوي كان في مستشفى بيافا، لما زرته قعدت ع سريره وطليت من الشباك كان في شي ببرق من بعيد، سألت أمي عنه، فقالت لي هذا البحر، وأخذتني عليه، يومها قعدت وتفرجت وخفت منه لأنه كان كبير كثير".

اقرأ/ي أيضا: أركيولوجيا النكبة

تلتقط أنفاسها وتنظر إلى قدميها ثم تكمل مبتسمة، "خلعت حذائي ومشيت في البحر والموج يضرب فينا أنا وابن أخوي زياد، سألته وين حدوده يا عمتي، قال لي هذا مالوش حدود، استدعيت وغسلت فيه، الله يحرمهم شم الهوا الي حرمونا منه".

"لما رحنا ع البحر فكرونا زوار انبسطوا ع ثوابنا وصاروا بدهم يصورونا، ما بعرفوا انهم هم الضيوف وهذه الأرض إلنا، لما وصلت هناك قلت هون بلادي وهون بدي أموت وأندفن عند أجدادنا وأهلنا"، تضيف حليمة.

حليمة خداش

ليس بعيدًا عن قصة حليمة عاش الكثير من المهجرين تجربة زيارة بلادهم في الأيام الماضية، مستفيدين من رحلات خرجت خلال عيد الأضحى المبارك. محمد بدارنة الذي هجر من مدينة يافا وهو في السابعة من عمره، عاد إلى مدينته لزيارة بيت عائلته ومطعمها والشارع الذي لعب فيه كثيرًا في طفولته.

يقول بدارنة لـ "ألترا صوت"، إن هذه الزيارة لبيته ليست الأولى، إذ اعتاد استثمار كل الفرص للعودة إلى يافا مع عائلته ولو كزائر، واصطحاب أشقائه وشقيقاته ليعيشوا ذكرياتهم التي حرمهم الاحتلال منها.

لا يجد الفلسطينيون صعوبة في التعرف لأمكنة أملاكهم رغم إزالتها بعد النكبة

يخبرنا بصوت باكٍ محاولا تمالك نفسه، "أخي الكبير عندما خرجنا من يافا كان واعي، عندما زرناها ذهبنا لمركز المدينة، قال لي اتركني هنا سأعود إلى بيتنا مشيًا، أنا بعرف كل زقاقها حجر حجر وبيت بيت، مستحيل أنساها.. كان منفعلًا ويصرخ على الشمال كان كذا وعلى اليمين كذا، وعندما اقترب من بيتنا بدأ يصرخ في وسط الشارع هاي دارنا هناك دارنا، ظل يبكي وأسبوعين نام في الفراش من المرض والتعب".

لم يتوقف بدرانة عن البكاء وهو يحكي لنا تفاصيل رحلته إلى يافا، يخبرنا أن انفعاله وحزنه وحسرته يزدادون بعد كل زيارة للبيت والمطعم، ويضيف، "كانت حياتنا أجمل حياة، نلعب ع البحر ونحضر أفلام في السينما، وكان عنا مطعم السلام من أشهر المطاعم فيها موجود في شارع الملك جورج المطل على بحر يافا، هذا المطعم دخله كبار المشاهير والسياسيين والفنانين مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وأسمهان وليلى مراد".

ويتابع، "عندما كنا نذهب له ونحن صغار كانوا يحضرون لنا أحسن طاولة ونأكل أحسن أكل، اليوم عندما نذهب نأكل في الشارع"، يتوقف لالتقاط أنفاسه ويكمل، "أختي عندما ذهبت لم تتمالك نفسها، قعدت باب المطعم تبكي وتصرخ من القهر حتى أن الناس خرجوا إليها".

أصر كل من حليمة ومحمد أنهما غريبان في الضفة الغربية، وأن وطنهما الحقيقي هو يافا وفي قرية بيت نبالا، ومثلهما الكثير من اللاجئين الذين ينتظرون يومًا يعودون فيه إلى "البلاد"، إلا أن ذلك لن يمنعهم من الذهاب إلى بيوتهم والوقوف أمامها مؤكدين بأعلى صوتهم: "هذا البيت لنا، هذه الأرض لنا".

اقرأ/ي أيضا: 

68 نكبة.. ونكبة

رحيل سلمان الناطور.. النكبة من منظورها الشخصي