16-ديسمبر-2018

الروائي قاسم مرواني (فيسبوك)

أراد الروائيّ اللبنانيّ مرواني أن يقول في روايته "السقوط من عدن" (هاشيت أنطوان/ نوفل، 2018) كلّ شيء عن الحياة والموت، التشدد والتدّين، المجتمع والجنس، وكلّ الأمور الأخرى التي تتّصل بالحياة والسلوك البشريين. وأن يُحيط أيضًا بأكبر عددٍ من الصور للبشر والمدن في عمله هذا. لذلك، غاب المركز عن الرواية، وتعدّدت الشخصيات والأصوات داخلها، لتبلور صورة مجتمعاتٍ معطوبة من جهة، ومنطوية على ما هو نتن من جهةٍ أخرى. وأيضًا، تطرح أسئلةً إشكالية عن الحياة والموت والجنس والحرب وجدوى ذلك كلّهُ. وأكثر ما يحضر في هذا العمل هو المدن الكبرى (بيروت وصيدا)، والأحياء العشوائية والقرى الصغيرة في هاتين المدينتين.

ما تفعلهُ بيروت، في رواية "السقوط من عدن"، لا يتعدّى كونهُ مُحاولات حثيثة لعدم تبنّي أي هويّة جديدة

في العمل، هناك ما ينتهك بيروت بصورةٍ مُستمرّة، في ظلّ واقعٍ سياسيّ واجتماعيّ غير طبيعيّ. المدينة هنا لا تُحاول أن تُحافظ على هويَّتها بالحدّ الأدنى من درجات المقاومة فقط، وإنّما تسعى إلى صدّ جُملةٍ من الهويّات التي ثمّة من يريد أن يفرضها عليها بالقوّة. بمعنى أنّ المدينة سبق وأن فقدت هويّتها الأصلية قبلًا. بهذه الحالة، يكون ما تفعلهُ بيروت لا يتعدّى كونهُ مُحاولات حثيثة لعدم تبنّي أي هويّة جديدة ومُغايرة لا تُشبه، دون شك، تلك الأصلية. وهذا الأمر، أي مُحاولات إملاء جُملةٍ من الهويّات من جهة، وفِعلُ التصدّي لها من جهةٍ أُخرى، حوّل المدينة إلى خزّان هويّاتٍ مُتضاربة وغير معنيّة ببيروت كهويةٍ قائمةٍ بحدّ ذاتها. كما حوّلتها أرضًا خصبة لتجمُّعاتٍ وتكتُّلاتٍ لا تنفكُّ المدينة تُحاول أن تتملّص منها قدر ما تستطيع. بهذه الحالة، تكون بيروت مدينة تناقضات كبيرة غير قادرة على أن تكون هوية لا لأبنائها، ولا لسكّانها، ولا لأيّ أحدٍ آخر. المدينة، كما هو معروف، تغرقُ في تعدُّدٍ طائفيّ ومذهبيّ وسياسيّ وطبقيّ لا يزيدها إلّا تمزّقًا وتشوّهًا وانقساماتٍ حادّة.

اقرأ/ي أيضًا: قاسم مرواني.. السقوط من علياء عدن

يُمكن هنا حصر أسباب حضورها في رواية مرواني بسببٍ واحد، وهو الإشارة إلى المدينة، ككل، باعتبارها عاملًا أساسيًا في تحديد وبناء سلوك البشر، لا سيما الوافدين إليها، وبالتالي، بيروت في الرواية مسؤولة عن تشكيل وبناء سلوك بعض الشخصيات، وتغيير سلوك شخصياتٍ أخرى. فالروائي وضع في نصِّه السرديّ شخصيتين وقعتا ضحية بيروت بكلّ التناقضات التي تحمِلُها، والانقسامات المتجذِّرة التي تعيشها، والتحوّلات التي ينتجُ عنها واقعًا مُتجدِّدًا للمدينة بصورةٍ يومية ومستمرّة. وبناءً على تجارب هاتان الشخصيتان، وعلاقتهما مع المدينة، ومكانهما وسط تحوّلاتِها، يكوّن قاسم مرواني، وإن بشكلٍ بسيط، صورة مُغايرة لبيروت عند القارئ.

رُكِّبت هاتان الشخصيتان في العمل بحيث تكشفان بعضًا مما هو هامشيّ وغير مُلاحظ في البنية والتركيبة المُعقَّدة لمدينة بيروت، وسلوك الأفراد والجماعات هناك في آن معًا. فـهاني وجيهان، هُما عينا قاسم مرواني الذي يتفحّص من خلالهما المدينة بشقَّيها البرجوازيّ والفقير. مُحاولًا بذلك وضع القارئ أمام صورةٍ التقطها لها هاني من منظورهِ الشخصيّ، وبناءً على ما اختبرهُ من تجارب أيضًا. وصورةٍ أُخرى التقطتها جيهان بالطريقة نفسها، ولكن عبر منظورٍ آخر مُختلف بفعل اختلاف الأفكار والمكان وسلوك البشر.

بيروت، أو جزئها البرجوازيّ، وكما يوصف مع أخذ مرواني دفّة سرد تفاصيل تتعلّق بحياة جيهان؛ عبارة عن مكانٍ لا يشهَد أي حركةٍ باستثناء عملية سير الحياة. الحياة هي كلّ ما يحدث في هذا الجانب من المدينة، ويخترق ربّما صمتها وهدوئها، بطريقةٍ لا تتجاوز أكثر عاملين يُميّزان هذا الجانب، وهما الرتابة والملل. "كلّ شيء هناك يسير برتابةٍ تامّة، لا ذرّة غبار واحدة، لا كرسيّ في غير مكانه، كلّ شيء مرتّب بعنايةٍ فائقة، موضوع في المكان المُخصّص له" (ص111). عبارة كهذه تردُ في وصف هذا الجزء من المدينة، لا تدلُّ إلّا على غياب الشقاء والعناء عن سكّانه المُنصرفين إلى كلّ ما هو مثير للملل. أي أولئك الذين يتصرّفون ببرجوازية أكثر من مما يجب، كما يتّضحُ لنا عبر شخصية ريا سرسق، آخر من تبقّى من العائلة البرجوازية، باعتبار أنّ تصرّفاتها وسلوكها يعكس بالضرورة تصرّفات وسلوك أبناء طبقتها.

جيهان وقعت ضحية هذا الجزء من بيروت. أو بصورةٍ أدّق، ضحية الخروج من بيئةٍ سبق وأن اختبرتها، إلى أُخرى ليست مختلفة فحسب، وإنّما تعيش يوميًا تحوّلات ليس من الضروريّ أن تكون إيجابية مُطلقًا. أضف إلى ذلك تنقّلها بين الطبقات الاجتماعية من الأسفل إلى الأعلى أوّلًا، ومن الأعلى إلى الأسفل أخيرًا. فضلًا عن اختبار الحياة هناك بمعناها الواسع والمليء بالتجاوزات والجرأة على هتك ما هو محظور وممنوع، وهذا ما كان غير مُتاحًا في بيئتها السابقة، أي مدينة صيدا التي صوِّرت في العمل كمكانٍ يسعى الجميع للفرار منه، ودون شك، نحو بيروت.

تزامنًا مع الوقت الذي يمضي من حياة جيهان في الجانب البرجوازيّ من مدينة بيروت (حي الأشرفية). كان هاني يختبر الجانب العشوائيّ منها، داخل غرفة تقع أعلى سطح أحد المبانيّ في حيّ "الصحرا" العشوائيّ في المدينة. هناك، كانت تبدو عنده مكانًا قذرًا بشوارع مُهملة، ومستنقعاتٍ أشدُّ قذارة، ومساحاتٍ رحبة يفعل فيها "الزعران" ما يشاؤون دون رقيبٍ أو حسيب. ما معناهُ أنّ الحياة الحاضرة في الجزء البرجوازيّ من المدينة، حيث جيهان، تُعرّف في هذا الجزء بوصفها شقاءً كاملًا هناك من لا يستطيع تحمّل وزرهُ. بذلك، تكون بيروت، بصورها المُتعدّدة، قد غيّرت سلوك كلٍّ من جيهان وهاني، وكوّنت لهما سلوكًا جديدًا يتماشى مع تحوّلاتها وواقعها، فصنعت من جيهان عاهرة، ومن هاني كائنًا مهزومًا وجبانًا.

وضع مرواني في عمله الروائيّ هذا شخصياتٍ اتّسمت بغرابة سلوكها وانحرافها تماشيًا مع بُنية العمل، والوتيرة التي يسيرُ وفقًا لها. فبالإضافة إلى شخصية جيهان التي جسَّدت دور العاهرة في العمل، أضف إلى ذلك تمثيلها صورة الفتاة المُتقلّبة سلوكيًا وأخلاقيًا بفعل تقلّب وتغيّر كلّ من البيئة المُحيطة بها، والمكان التي تسكنهُ، والبشر من حولها، ومن تدرك أيضًا وجودها من خلال جسدها الذي خضع لعمليات تحوّل عدّة، انعكست بصورةٍ مباشرة على كيفية رؤيتها للحياة، ونظرتها إلى نفسها بالدرجة الأولى.

كلّ شيء في هذا المجتمع ينطوي على شيء آخر يختلفُ كليًّا عمّا يظهر بصورةٍ علنية

أيضًا، هاني الذي صنعت منهُ بيروت كائنًا بشريًا يتعامل مع ما يتعرّض لهُ بالحدّ الأدنى من المقاومة والرفض والاحتجاج، بعد أن قذف دون شعور مُسبق حين تمدّدت أشهر عاهرة في حيّ "الصحرا" على سريره، وفجّرت ضحكاتها في الغرفة الصغيرة المُتعفِّنة، لتخلق عندهُ أزمةً مع الجنس وممارستهُ؛ بالإضافة إلى هاتين الشخصيتين، هناك شخصيات أُخرى في العمل تعيش نوعًا من الإحباط والبؤس الذي يقودها بطبيعة الحال إلى البحث بشكلٍ جدّي عن جدوى البقاء. أو على الأقل العثور على إجابةٍ لسؤال جدوى الاستمرار والكفاح لأجل حياةٍ تمضي، بالنسبة لبعض هذه الشخصيات، داخل غرف غسل الكلى.

اقرأ/ي أيضًا: قاسم مرواني.. نسيج حكائي للعبث

من بين شخصيات مرواني الأخرى، نجد من يتحوّل إلى كائن داعر يُمارس الجنس مع زوجة عمّه وابنة خالته بعد أن كان شابًّا مُتدينًا يسيرُ وفقًا للخطّ الذي يرسمهً له والده الذي يعملُ رجل دين. وهناك من يُمارس الجنس مع شقيقته التي تعرّضت للاغتصاب في الحرب الأهلية اللبنانية. ومن يُمارس الجنس خلسةً مع فتاة ويرفض الزواج منها حين يتكوّر بطنها مُشيرًا إلى جنينٍ في الداخل، لتشنق نفسها. يحدث هذا كلّه بعيدًا عن بيروت، في إحدى قُرى مدينة صيدا، حيث المجتمع هناك مجتمع ديني وملتزم، ولكنّهُ ينطوي على حقائق تجعلُ منه مجتمعًا داعرًا بالدرجة الأولى. فالتشدّد ينطوي على رغبة في الفرار والتحرّر. كلّ شيء في هذا المجتمع ينطوي على شيء آخر يختلفُ كليًّا عمّا يظهر بصورةٍ علنية. مجتمع غير واضح الملامح، وينطوي على تناقضات رهيبة تودي بحياة وسلوك البشر هناك.

 

اقرأ/ي أيضًا:

خالد خليفة.. بلاد في جنازة