15-فبراير-2022

عمل فني لـ محمد حافظ

أن تصنع مجسمًا لمنزلك وتجسمه في حقيبة سفر قديمة فهذا يعني أنك تعلن رسالة حنين لما فقدته. الأمر واضح بهذه الصفاقة. وأن تسمي هذا العمل فنًّا، فهذا يعني أنك تعيد الفن إلى ما قبل تسميته، أي إلى ما قبل انزياحاته عن موضوعه، ومحاولته أن يخرج من أسر النسخة إلى جنة الأصل. إنه نحت فوتوغرافي إذا جازت التسمية. وهذا عين ما يقوم به الفنان السوري المقيم في الولايات المتحدة محمد حافظ. بل هو يرفق هذا الادعاء الفني بخطاب سياسي ودعائي.

أن تصنع مجسمًا لمنزلك وتجسمه في حقيبة سفر قديمة فهذا يعني أنك تعلن رسالة حنين لما فقدته

في الوثائقي الذي أعده جيمي غولدبلوم عن أعماله، يقول حافظ إن السيدة الأمريكية التي استأجر منها شقة حين وصل إلى هذه البلاد حاولت تعليمه كيف يستخدم زر التيار الكهربائي ليضيء الشقة. المرأة على لطفها كانت تحسب أن المستأجر الجديد آت من مجاهل التاريخ والجغرافيا معا. ويضيف في هذا الفيديو، أنه جهد ليخفي أصوله السورية في علاقاته مع الآخرين ولم يفصح عنها إلا بعد أن أنجز ما يستحق عليه الثناء. في هذه اللحظة من الإنجاز عاد سوريًا فخورًا.

اقرأ/ي أيضًا: معرض زياد أبي اللّمع.. ما تقوله الهوامش

لم يلبث حافظ أن حقق شهرة ونجاحًا في أمريكا، واستطرادًا حقق نجاحًا وشهرة في البلاد العربية. هذا الاستطراد موح وله معنى. فالاعتراف بحقه في إعلان خطابه في الولايات المتحدة يجعله على نحو ما مرئيًا ومعاينًا في بلاده التي يتحدر منها. لكن هذا التموضع في المرئي والمعاين ليس بيت قصيده في ما يبدو. فعمله يخاطب جمهورًا أمريكيًا وغربيًا في الأصل، وما إن يصبح خطابه مسموعًا هنا حتى يمكن أن يتردد ترجيعه في البلاد التي أتى منها.

في الفيديو أيضًا، يسأل والدته التي تصر على البقاء في سوريا لماذا لا تأتي لتقيم معه في الولايات المتحدة؟ ولا تحير جوابًا واضحًا. حجته في وجهها أقوى: نحن عائلتك ونحن ملجأك فما الذي تنتظرينه هناك بعيدًا عنا؟ وهذه الحجة تبدو بمعنى ما، مثابة تعيين لهويته التي صنعها بنفسه، بالمعاناة والحزن والوحدة والاجتهاد: إنه أمريكي بدليل أن ثمة في ما يعلنه من تاريخه العائلي والشخصي ما يسمح له بأن يطمع في إيجاد موئل ومكان له في هذه البلاد ويعمل على توسيع رقعتيهما يوما بعد يوم.

إلى هنا، يبدو كل ما سبق كما لو أنه يقع في هجاء هذا السلوك الذي يبدو متناقضًا. فهو ليس فنانًا بالمعنى المتواطأ عليه، وليس سوريًا بالمعنى المتعارف عليه، وليس أمريكيًا بالمعنى الرائج. إنه خليط جديد. وهذا الخليط بالتحديد هو ما نحتاج إلى التمعن في فحواه ومآلاته.

لنعد قليلا إلى سؤال الفن: ما الذي يرسمه وينحته فنانون من بلادنا؟ معظمهم يعمل على مناسبة النسخة مع سؤال الفنون وانزياحاتها. يرسم لتكون اللوحة هي الباقية وليس موضوعها وأصلها. ومعظمهم يريد ترحيل أعماله هذه إلى متاحف غربية، فتبقى اللوحات ويموت الأصل حتى حين يكون صلبًا وقويًا كالبيوت وشوارع المدن. هل نستطيع الآن أن ندرك ما الذي ينجزه حافظ؟ إنه بوضوح شديد يقول إن ما مات أو يحتضر ليس عابرًا، وليس مجرد مادة لموضوع فني. إنه نحن. نحن الذين متنا واحتضرنا وبتنا بلا عيون. قد تكون جملة رائد وحش في كتابه الأخير "كتاب الذاهبين" أبلغ ما يوضح هذه المعادلة: "والمنفى؟ رحلةٌ تكتبها أجسادنا. فينا من يرونه جائزةً فيقتلون الماضي، وفينا من يَعِدّونه عقابًا فيُعدمون الحاضر. لا هو بداية ولا نهاية، لا نسيان ولا ذاكرة، بمقدار كونه إضافةَ عيونِ إلى عيوننا، وأيدٍ إلى أيادينا، ليكون لنا أن نرى الخسارة ونلمسها، ليكون لنا حملُها بطاقةَ هوية".

مع أعمال محمد حافظ، يمكننا أن نتفهم معنى أن يصر الفلسطينيون على التذكير بنكبتهم. وأن ندرك ضرورة أن يتنكب السوريون مذبحتهم على ظهورهم

اقرأ/ي أيضًا: داناي مونس.. حلم فاتن عن الضياع

مع ذلك ليس حافظ منفيًا كرائد وحش. إنه بمعنى ما مقيم ومتوطن. لكنه في مكان ما يريد القول: أنا لا أريد إضافة عيون إلى عينيّ، أريد أن أضيف عيون إلى عيون أقراني المواطنين في هذا البلد الذي توطنت فيه. عليهم جميعًا أن يستحقوا مواطنتي، ولن يتم هذا الاستحقاق من دون النظر مليًا إلى المذبحة التي أتحدر منها. هكذا، ومع مثل هذه الأعمال الفنية، كالتي ينجزها محمد حافظ، يمكننا أن نتفهم معنى أن يصر الفلسطينيون على التذكير بنكبتهم. وأن ندرك ضرورة أن يتنكب السوريون مذبحتهم على ظهورهم لتبدو واضحة لكل من يراهم ويعاينهم. وأن ينقش الفنانون العراقيون مذابحهم على جلودهم، حتى لا يحسب أحد أننا ولدنا من الهواء العابر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار| بيار سولاج: يرشدني ما يحدث على اللوحة إلى ما أريد رسمه

نحّات العواء الإنسانيّ