18-يونيو-2017

غاتيس سلوكا/ لاتفيا

أحسستُ بلذّة عميقة وأنا أقول هذا الدّعاء من أعماق الروح: "لا ردّ اللهُ سنوات الزّحمة التي كنا نعانيها ونحن نستعمل الطريق الرابط بين الجزائر العاصمة ووهران وبينها وقسنطينة". فالطريق الأحادي مملّ بالضرورة. يستهلك وقتك وجهدك ويخلق تذمّرك ولا يُبالي به. حتى القراءة لا تنفع معه، إذ سرعان ما يتحوّل السخط عليه سخطًا على ما في يدك وفي داخلك. لذلك يكون التأفّف هو السلوك السائد داخل المركبة، وتكون علاقة الراكب بالسائق معرّضةً للتشنج في أية لحظة، كأن السائق هو المسؤول عن طول الطريق في لا وعي الزبون، والعكس صحيح في لا وعْي السائق. والحديث على الأحادية في المشهد السّياسي.

يكثر الاستماع إلى الأغاني الخليعة في الطريق الأحادي، كنوع من التطهر النفسي

في الطريق الأحادي، حيث الزحمة هي سيدة المسافة، تذهب الطاقة هدرًا مهدورًا دون نتيجة معتبرة، فالطريق الأحادي يعلّم سالكيه الصبر الذي يثمر النومَ أثناءه وبعده، ويجعل النظرَ إلى الساعة نوعًا من العقاب، والاستماعَ إلى تصريحات المسؤولين في الرّاديو مدعاةً للسّخرية.

اقرأ/ي أيضًا: هل تصلح أنقرة ما أفسدته الرياض؟

لا يبالي بالطبيعة في الطريق الأحادي إلا خارج من السجن، بينما يراها الراكب العادي سجنًا مفتوحًا. يُكثر السالك للطريق الأحادي من تلمّس لحيته متوقعًا، من غير أن يشعر، أنها طالت بطول الطريق، فالطريق الأحادي يجعل علاقتنا بالجغرافيا مهزوزة: المسافة قصيرة من جهة، ومن جهة مقابلة يصلح الزمن المستهلك في قطعها لقطع نصف قارّة.

يكثر الاستماع إلى الأغاني الخليعة في الطريق الأحادي، كنوع من التطهر النفسي، فالطريق الأحادي يجعل التطهر مرتبطًا بالتفسخ. ويلجأ سالكُه إلى هاتفه ليقول أي شيء مع أيٍّ كان، فالطريق الأحادي يعلّم الثرثرة والانحباس في الخيال، لذلك يجد المعاق نفسه مرتاحًا في الطريق الأحادي، بينما يتمنى المتعود على الحركة أن لو كان معاقًا. الطريق الأحادي يجعل سالكه يرى في نعمة الحركة نقمة.

لا يمكن أن تكون الطرق الأحادية إلا في الأرض لأنها لا تعشش إلا في المساحات التي لا تتغيّر، التغيير يحيل على الطريق المزدوج بالضرورة، والطريق المزدوج يحيل بالضرورة على المنافسة، حيث يمكنك أن تسير وفق قدرة مركبتك، فالمجال مفتوح. أما في الطريق الأحادي فقد تجد نفسك تقلل من سرعتك التي أنت قادر عليها بسبب مركبة تعبانةٍ أمامك، فالطريق المزدوج يجعلنا لا ندفع ثمن هزال الآخرين، كلّ يمشي جهدَه. في الطريق المزدوج يمكن أن تحدد موعد الوصول ولو مقاربًا، أما في الطريق الأحادي فلا تستطيع لأن الفارق بين الزمن المتوقع والزمن الحقيقي قد يكون بالساعات،.

يجعل الطريق المزدوج ـ السريع أصحابَ المركبات المهترئة يحنّون إلى الطريق الأحادي لأنه يستر العيوب، في الطريق الأحادي قلما نفكر في تجديد المركبة لأن الجديد سرعان ما يتقادم، الطريق الأحادي يكرّس ثقافة الترقيع، بينما يمنحنا الطريق المزدوج الإحساس بالعدالة، وهو بهذا مستقيم حتى وإن كانت فيه منحنيات، ذلك أن الاستقامة أمر معنوي قبل أن تكون شكلًا.

 التغيير يحيل على الطريق المزدوج بالضرورة، والطريق المزدوج يحيل بالضرورة على المنافسة

قالت لي سيدة كانت تجلس إلى جانبي في سيارة الأجرة، وتقرأ من كتاب بالفرنسية ل ياسمينة خضرا: لماذا أنت تتمتم؟ هل أنت مسيحي؟ قلت: بل مسلم، والتمتمة ليست حكرًا على دين. قالت: رأيتك تتمتم على طريقة المسيحيين. قلت: كنت أدعو على سنوات الطريق الأحادي هل تذكرينه؟ قالت لي: هذه أول مرة أزور فيها الجزائر، وقد أعجبني هذا الطريق، قلت في نفسي: نحن أنفقنا أعمارًا في الطريق الأحادي حتى بتنا نكره السفر، ثم انتبهت إلى هذا السؤال: من المسؤول عن أعمارنا المهدورة في الأحادية؟

اقرأ/ي أيضًا: حراك الريف المغربي وأزمة العقل السياسي المخزني

كان الطريق المزدوج ما بين العاصمة ووهران محفوفًا بشهوات الطبيعة، حيث كنت أعاين الاخضرار في الخارج وأستنشق عطر السيدة التي كانت تلجأ إلى قارورة عطرها الباريسي كل ربع ساعة تقريبًا. قلت لها مازحًا: هذا اتهام ضمني لنا بأننا لسنا على نظافة كافية، فضحكت ضحكة أعطت للطريق السريع معنى الحرير: جمال هذا الطريق جعلني أرى في العطر طريقًا إلى السماء، قلتَ لي إنك مسلم؟ قلت: نعم. قالت وقد ركزت علي نظرها: ما يقول دينك عن الطريق إلى السماء؟ نظرتُ في عينيها، نظرتُ إلى السماء فانتصب هذا السؤال النزاريّ في ذهني: أيّهما السّماء؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

"فقه الفساء".. اشتباك مع ياسر برهامي وأشباهه

الإفطار بنهار رمضان: حق الفرد ينازع "حياء" المجتمع