نقرأ قصص ميخائيل زوشينكو (1894-1958) ولا نستطيع أن نتجاهل فكرة أنّ الكتابة عند الأديب الروسيّ تنشأ من الذات. نقول الذات لأنّ قصصه تنطلق منها، ومن شعورها كذلك بالسخط حيال الواقع الجديد الذي فرضه البلاشفة بعد إطاحتهم بالقيصر. وفرض بدوره على زوشينكو أنماط عيش متشظية لا تعرف الاستقرار، وتمهّد لليأس المبكّر الذي سوف يصيبه حين يُطرد من اتحاد الكتّاب السوفييت، بالتزامن مع فرض السلطات السوفيتية حظرًا على نشر مؤلّفاته وحرمانه كذلك من الحصول على راتبٍ تقاعدي، وبطاقة تموينية، كجزءٍ من حملة منظّمة لتضييق الخناق عليه، ودفعه مكرهًا إلى تبنّي اللون الأدبيّ الوحيد في البلاد: الواقعية الاشتراكية.
تسجّل قصص ميخائيل زوشينكو مشاعر السخط تجاه الواقع الجديد الذي فرضه البلاشفة بعد إطاحتهم بالقيصر
هكذا، سيعيش مؤلّف "قبل شروق الشمس" جلّ سنوات حياته مضطَّربًا، يدفع ثمن رفضه تبنّي نموذج المواطن/ المثقّف الشيوعي الصالح، مُحافظًا على المسافة التي وضعها بينه وبين السلطة الجديدة بشكلٍ يُتيح له كشف بؤس الحياة اليومية للمواطن الروسيّ، وزيف ما يُسمّى بــ "الحياة السعيدة" داخل دولة العمّال والفلّاحين، الأمر الذي سيقوده إلى اصطدامٍ عنيف مع السلطة، سينتج عنه اكتئاب حاد يرافقه حتّى اللحظات الأخيرة من حياته: "حاولت تغيير المدن والمهن. أردت الهروب من هذا الكرب الرهيب. شعرت أنّه سوف يدمّر حياتي" يقول.
اقرأ/ي أيضًا: "الرخيصة والرخيص" لعارف حجاوي.. قصص قصيرة حقًّا
قصص ميخائيل زوشينكو، "قصص مختارة" (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2018) ترجمة يوسف بساليوس، جاءت حادّة في بلاغتها، تُغني عن الكثير من الشرح، وتضع قارئها حيال وليمة دسمة من وقائع وشخصيات يُقدّمها بمزيج فاتن وغريب يجمع بين الواقعية السحرية، والسخرية والكوميديا والسوداء. تؤسّس هذه العناصر معًا مناخ قصص صاحب "الكتاب السماوي" الذي يثبّته من خلال طبيعة وسلوك شخصياته التي تعيش توتّرات نفسية تبلغ ذروتها لأبسط الأسباب. وسيعمل لاحقًا، قصّة وراء قصّة، على إزاحة الطبقات المتراكمة فوقها بهدف النفاذ إلى عمقها، حيث تعتمل أوجاعها الدفينة، ومفارقات الحياة التي تضعها، مرةً بعد مرّة، عند حافة الجنون. وبالتالي، لن يكون غريبًا أن تجنّ شخصية من شخصيات العمل بسبب فاتورة كهرباء ضخمة؛ "كان لدينا أحد السكّان يعمل حمّالًا، وقد أصابه الجنون حقًا، من هذه المسألة. توقّف عن النوم كي يعرف من يظلّ مستيقظًا، يقرأ الجبر نحن ضوء المصباح في المساء، ويطهو الطعام بالكهرباء. لم يعد إنسانًا، لقد جنّ فعلًا". (ص 28).
تُشرّح قصص مجموعة ميخائيل زوشينكو المشهد العام، باضطّراباته وتناقضاته وزيفه أيضًا. وتتنقّل بين مركز المدينة وهامشها بصورةٍ متواترة، ولكنّ الغلبة تظلّ للمركز، باعتباره، بعد الثورة، قد تحوّل إلى وجهةٍ لمختلف شرائح المجتمع الروسيّ، ناهيك عن أنّه بئر ينهلُ منه الكاتب طبع وسلوك شخصياته أيضًا. هكذا، سيحكي كاتبنا قصصًا عن السكن المشترك الذي انتشر في المدن عامًة والعاصمة خاصّة، عبر مجموعة قصص جاءت بخلفيةٍ ثابتة، ومواضيع مختلفة، على أن يظلّ القالب، وإن بدرجاتٍ متفاوتة، كوميديًا ساخرًا.
لكنّ هذه الكوميديا بدورها لا تُلغي فكرة أن ما سنقرأه سيكون صادمًا؛ مجموعة عائلات تتشارك شقّة واحدة، وزّعت كلّ عائلة على غرفة، بينما ظلّ المطبخ مُتاحًا للجميع. تدخل هذه العائلات في معركةٍ صاخبة لأجل قطعة فولاذٍ صغيرة تُستخدم لتنظيف أدوات الطعام من السخام؛ سكّان شقّة مشتركة يعيشون على ضوء المصابيح الزيتية، وحين تصل الكهرباء إلى الشقّة، يكتشفون للمرّة الأولى طبيعة الحياة البائسة التي يعيشونها، والفقر المدقع الغارقين فيه: "في السابق كان المرء يغادر صباحًا إلى العمل، ويعود بالمساء يشرب الشاي وينام. ولم يكن المرء يرى شيئًا عندما كنّا نستخدم الكيروسين، أمّا الآن فقد أضيء المكان وأصبحنا نرى (...) إنّي فقيرة على أن أحيا في الضوء" (ص 20,21).
جاءت قصص ميخائيل زوشينكو حادّة في بلاغتها، تضع قارئها حيال وليمة دسمة من وقائع وشخصيات يُقدّمها بمزيج فاتن
نقرأ في قصّة ثانية حكاية مواطن لا يجد لنفسه في العاصمة موسكو مأوىً سوى حمّام في منزل مشترك. سيعيش المواطن في الحمّام، ويدفع مبلغًا ماليًا عاليًا لقاء العيش فيه، وسيتزوّج فيه، وتُنجب زوجته فيه، وتأتي والدتها لزيارتها والمبيت عندها، ومن بعدها أشقاؤها لقضاء عطلة عيد الميلاد. كلّ ذلك في حمّام يضطّرون جميعًا لمغادرته عند المساء، حين يأتي بقية سكّان المنزل للاغتسال.
اقرأ/ي أيضًا: نهلة كرم.. الموت وأشباحه
يفقد مواطن آخر حذاءه المطّاطي في الترام، ويبدأ حملة بحثٍ ضخمة عنه، باعتباره لا يزال "جديدًا إلى حدٍّ كبير. فهذا هو الموسم الثالث فقط الذي ارتديه فيه" (ص 96). المُلفت في القصّة أنّ الحذاء الذي سيجده في غرفة يجمع فيها عمّال المحطّة ما ينساه المواطنين في الترام، لن يتمكّن صاحبه من استعادته ما لم يأتي بشهاداتٍ من سكّان منزله تفيد بأنّ هذا الحذاء حقًا له. "لقد وضعته على الكومود، عندما أشعر بالحزن سوف أنظر إليه، وسوف تفرح روحي وتبتهج. إنّ نظامنا يعمل حقًا بجودة! سيظلّ هذا الكلوش (الحذاء) في ذاكرتي للأبد".
اقرأ/ي أيضًا: