07-يوليو-2021

خالد زيادة وكتابه

جمع المؤرخ اللبناني خالد زيادة مؤلّفه ثلاثي الأبعاد هذا من ثلاثة كتب دوّن أطروحتها على مُدد هي "اكتشاف التقدّم الأوروبي" و"تطور النظرة الإسلامية إلى أوروبا" و"لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب"، تحت عنوان "المسلمون والحداثة الأوروبية" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2017)، وجاء في عشرين فصل يتدرج بعرض فكرته عبر خلاصات في كل جزء منه مع مقدمة عامة.

 يبين خالد زيادة اقتراب المسلمين من العالم الغربي، سواء عبر التغير النسبي في النظرة الجغرافية أو حدوث تفاعلات إقليمية أدّت للتماس

حدود الكتاب تبدأ بعرض مختلف المقادير حول الأصول التي شكّلت لبِنات الذاكرة المسلمة عن أوروبا، وكانت إحداها التشكل الجغرافي المتدرج، كما هو الحال لبقية العلوم التي تأثر العرب والمسلمين بها من اليونان، عبر الطبيعة السباعية لتقسيم الأرض، وكون المسلمين ومن جاورهم قابعين في الرابعة منها، أوسطها وأعدلها.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| خالد زيادة: الدولة الدينية مفهوم حديث

ينتقل المؤلف بالتدرج عبر عرض الأفكار ليبين اقتراب المسلمين من العالم الغربي، سواء عبر التغير النسبي في النظرة الجغرافية وكذا حدوث تفاعلات إقليمية أدّت للتماس بين المسلمين وأوروبا، منها الحروب على الحدود والحروب الصليبية وكذلك الاسترداد في الأندلس ومسألتهم فيها، وتطور بنية ذاكرة المسلمين حول الوجود الأوروبي في الأقاليم الإسلامية، وليست انتهاءً برحلات التبشير والاستشراق والاستعمار، وبالتالي تشكل التيارات المختلفة لدى المسلمين.

عرض زيادة في الكتاب الأول قضيته في التنظير لنقطة البداية، وإن صح التعبير المرحلة الأولية التي تروم اكتشاف مبتدأ ضعف الذات المسلمة، وتقّدم أوروبا، وأن هذا لا يُمكّن التأريخ له وفق ما ظهر من أحداث التاريخ السياسية الظاهرة، أي الثورة الفرنسية ثم غزو نابليون لمصر في منتهى القرن الثامن عشر، ولكن المسألة تعود لما قبل ذلك في الحقيقة، التماس العثماني بهزيمة فيينا ثم معاهدة كارلوفيتسا في منتهى القرن السابع عشر.

في عام 1699 فهم المسلمون مكانتهم من أوروبا، ممثلين بالدولة العثمانية، الدولة الأبرز تمثيلًا للمسلمين سياسيًا، ولكنه يضيف كذلك أن معرفة المسلمين بوجود بوادر تقدّم لا يمكن أن تتوقف هنا، فالمسألة كذلك تعود لفترات سابقة، أي معرفة الدولة العثمانية بأوروبا، أو كما يقول خليل إينالجك وُلدت في أوروبا، ثم ينقل زيادة مقولة ابن خلدون المتّقدة ذكاءً والمتفردة تحت وصف "والله أعلم بما هنالك" في حديث مُنتبه لما يحدث في أوروبا. ولا ينسَ الإشارة لمسلمي الأندلس والهند.

قبيل اكتشاف التقدم الأوروبي بدا وكأن المسلمين ابتدروا مجموعة من محاولات الكتابات الإصلاحية، اختلفت عن مسألة الإصلاح في الدين، ومالت إلى الدنيا والإدارة

يعني أنّه كما أراد التعليل التاريخي الأدق استكناه مرحلة اكتشاف التقدم الأوروبي بدلًا من حصر ذلك بمجرد نقطة الولوج النابليوني لمصر، فكذلك إن مسألة اكتشاف هذا التقدم سبقه مقدمات كانت هي تطور مراحل النهضة والتنوير في أوروبا، والكشوفات الجغرافية الأوروبية في العالم، والتي كانت إنذارات، غالبًا لم يكن من حظ المسلمين معرفة كيفية التعامل معها، أو أنّ محاكمتنا لهذا الأمر قد تعتبر مستحيلة حينذاك.

اقرأ/ي أيضًا: "مدينة على المتوسط": أنثروبولوجيا طرابلس.. أدب خالد زيادة

قبيل اكتشاف التقدم الأوروبي بدا وكأن المسلمين، والمثال الوارد بشدّة هو التنظير العثماني، ابتدروا مجموعة من محاولات الكتابات الإصلاحية، اختلفت عن مسألة الإصلاح في الدين، ومالت إلى الدنيا والإدارة، قُدّمت لوائح مختلفة للسلطان حول أحوال الدولة، على سبيل المثال مدونات حاجي خليفة العديدة في القرن السابع عشر، وبدا أنها لم تؤت أكلها، أو أن الدولة عجزت إلا عندما وجدت نفسها أمام جبر تطوير العسكرية في القرن الثامن عشر ومع ملاحظة تقدّم الجار الروسي والهزيمة آنفة الذكر.

تشكل بعد هذا الانتباه للتطوير العسكري محاولات أكثر شمولية في مؤسسات الدولة، في عهد سليم الثالث، التي تلا فشلها سيل جارف من التنظيمات ابتُدأ منذ محمود الثاني، أتى على هيئة بنية الدولة ولغتها ومصطلحها، وهيّأ للحقبة المسمّاة بالنهضة العربية وأختها التركية في زمن التنظيمات.

في الكتاب الثاني أصبحت نظرة المسلمين، وهنا الحديث يتطور على صعيدين، المسلمين كبيئة داخلية متشاكلة التوجهات، ولكن فيها نوع من التكاتف، والثاني تضارب بين ذاكرة متخيلة وتاريخ حادث حول أوروبا لدى المسلمين من جهة أخرى، وكان ذلك بالتأكيد عبر جمع من القرون، منذ نشوء إمبراطورية الفاتح مرورًا بالفضول الأوروبي للعالم وليس انتهاءً مع القرن التاسع عشر.

كانت الصرعة العربية والإسلامية قضية إعجاب لدى الأوروبيين، ولكن مع انحسار الأندلس وتشكل العثمانية كقوة مسلمة في أوروبا على مدى أدّى لانقلاب الصورة رأسًا على عقب، وحتمًا مع عوامل أخرى محيطة، بات المسلمون هم من يبغون اكتشاف هذه القارة الأوروبية، بالطبع يعرض زيادة آراء متنوعة عبر مؤلفات ورحّالة مختلفين لم تقتصر النظر على الجانب العثماني بل ولدى المغرب والهند أيضًا.

تشكل الانتباه للتطوير العسكري محاولات أكثر شمولية في مؤسسات الدولة، في عهد سليم الثالث، التي تلا فشلها سيل جارف من التنظيمات

هذه الرحلات والسفارات مختلفة التوجهات والغايات كانت تنطلق من عدّة أسس، تلك المغربية على سبيل المثال أرادت النظر في مسألة الأسير المغربي في أوروبا، بينما العثمانية الواقعة في القرن الثامن عشر لم تُخف فضولها السياسي والإصلاحي الذي نشأ لدى مدونات إصلاحية سابقة، ولم تبتعد في غرابتها كالتي دوّنها ظريف الأطوار أوليا جلبي في القرن السابع عشر.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة خالد زيادة

فيما يخصّ نظرة العثمانيين لأوروبا، يبين زيادة تكوّن خزّان مفصّل حول أوروبا الحديثة لدى العثمانيين في القرن الثامن عشر. يستدل المؤلف على إحدى ملاحظات إبراهيم متفرقة -الذي كان له الفضل في جلب المطبعة بعد سبات طويل- تلك الملاحظات الفريدة في فهم الأنظمة السياسية في أوروبا وعلمانيتها وعلاقتها بالدين.

وبالانتقال للقرن التالي وللنظر إلى أوجه وآثار هذه النظرة في العالم العربي هو تكوّن توجهات مختلفة في النظر إلى حداثة أوروبا والتطور فيها، اختلط في بعضها الذاكرة القديمة "الفرنج" و"الصليبيين" وفي أخرى التسامح والتوفيق، بالطبع جلب زيادة آراء مفكرين معاصرين حول هذه التوجهات كالعروي وجعيط والجابري.

يطرح خالد زيادة في الفصل الأخير للكتاب الثاني مسألة نقد الاستشراق في تكون النظرة الأوروبية للشرق وتعامل جمع من المفكرين المعاصرين المذكورين في القرن العشرين مع هذه المسألة، ومن ضمن ذلك النظر المُشكّك لمثل شكيب أرسلان إلى غايات الاستشراق. وتجدر الإشارة إلى تناول زيادة دور الاستشراق في ابتكار مصطلح "المدينة الإسلامية" والتعامل المُفارِق معه من قبل توجهات أخرى في كتابه "المدينة العربية والحداثة".

يتناول في الكتاب الثالث تفاصيل القرن التاسع عشر والتوجهات الناشئة فيه، وضمن سياق الكتاب الكلّي -العلاقة بين المسلمين وأوروبا- وكيفية تداخل المصالح الأوروبية الاقتصادية بوجودها في الجسد المسلم، وتمدد قضية الإصلاحات وتعقدها بين مسألة إرضاء الغرب وتسكين ضغوطاته من ناحية، واستقواء الحاكم على تلك الإصلاحات السياسية وإبادتها.

لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب، يعني أن العلاقات السابقة في استكشاف المسلمين للغرب، وفضول أوروبا لدى المسلمين، بات واصلًا لدرجة من التجاور بمكان بحيث بات الأقوى ينظر لمصالحه، وسياق المد والجزر المتكون في القرون السابقة تحول إلى صراع مصالح، فُتّت الدولة الإمبراطورية لأسباب متنوعة.

تطورت تيارات النهضة لأشكال مختلفة، أثّرت عوامل الدولة العثمانية الداخلية الساعية في المركزة، والخارجية في اضطراب علاقاتها نتاج صعود تيارات استكملت مرحلة تصفية الدولة إلى نشوء آراء مختلفة بين تلك التيارات، ومع استكمال هذه الظروف بتأسيس الجمهورية التركية وإلغاء الخلافة، ازدادت التيارات القومية والإسلامية راديكاليةً، وتشكلت الأيدولوجيا.

تطورت تيارات النهضة لأشكال مختلفة، أثّرت عوامل الدولة العثمانية الداخلية الساعية في المركزة، والخارجية في اضطراب علاقاتها

بُنيت الدولة الحديثة وتزعمتها التيارات ضمن تجارب قومية فشلت هي الأخرى، كمسيرة الإصلاح العثمانية في بدايتها، واجهت هذه التيارات أصولية إسلامية تبغي إحياء الإرث القديم، هكذا ضعف المثقف وانتصرت الدولة التي تطارد الأفكار وتلغي دور المثقف، ويمهد غياب الأفكار السبيل لانتشار التدين والإسلام السياسي، لتنشأ بعدها الأطروحة المضادة بتبرير الأنظمة تسلطتها بمحاربة التطرف الديني والإرهاب.

اقرأ/ي أيضًا: طبعة رابعة من كتاب "كاتب السلطان: حرفة الفقهاء والمثقفين" لخالد زيادة

الكتاب حافل بأسماء المؤلفات والمُصلحين والرحالة والمبعوثين، وتدرجت المعرفة والعلاقة بين المسلمين وأوروبا عبر هؤلاء بشكل مفصّل، مما يتعذر ذكر التفاصيل بأكلمها وعلائقها المتعددة في مقال واحد، وأختم بنقل خالد زيادة حول استمداد الوعي العربي بُنيته في القرن التاسع عشر من جذوره العائدة إلى عهد مماليك مصر حين ولوج سليم الأول الشام وما بعدها، سواء أكان من نظرة تدني الاقتصاد عبر البحر الأحمر أو الوعي العربي عبر اللغة أو حتى تشكّل بنية فقهية مؤسساتية فُرضت على المشرق العربي حينذاك، مع استدعاء المسألة الثورية بعد انقلاب 1908 الدستوري وما بعد الحرب العالمية الأولى وللحاصل من مسألة ثورات الربيع العربي 2011 من محاولة إعادة العمل بالدستور والديموقراطية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مبضع "الذاكرة والتاريخ" في القرن العشرين الطويل: معالم النقد عند وجيه كوثراني

كتاب "بلاد الشام في مطلع القرن العشرين".. تشريح المكان والتاريخ