يقدِّم كتاب "غزة في أزمة: تأملات في الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين" (شركة المطبوعات، 2012/ ترجمة أنطوان باسيل) رؤى وتصورات وتأملات هامة حول فلسطين، وقطاع غزة على وجه التحديد، يقدّمها اثنان من أبرز الباحثين في الشؤون الفلسطينية، وهما الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي، والمؤرخ والأكاديمي إيلان بابيه.
يضم الكتاب الذي حرّره الفرنسي فرانك بارات، مجموعة من المقالات والمقابلات القصيرة نسبيًا، لكنها ثرية للغاية، التي أُجريت مع تشومسكي وبابيه، أو مع كليهما في آن واحد، حول السياق التاريخي والتداعيات السياسية للحروب العدوانية الإسرائيلية ضد غزة، بما في ذلك عدوان عام 2008 – 2009 الذي يُعرف باسم عملية "الرصاص المصبوب".
وينطلق الكتاب من حوار مع تشومسكي حول الانتخابات الفلسطينية التي أُجريت عام 2006، وقوبلت نتائجها بإجراءات عقابية من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل ضد قطاع غزة.
ويكشف تعليق نعوم تشومسكي المعمق الحقيقة القاسية المتمثلة في كيفية عرقلة الديمقراطية ومحاولة إجهاضها عندما لا تتماشى مع المصالح الغربية، إذ قوبل قرار الشعب الفلسطيني في انتخابات عام 2006 بحجب الأموال الحيوية، وتشديد الحصار على غزة، وتصعيد الضربات العسكرية عليها، وغيرها من الوسائل التي أرادت "إسرائيل" منها معاقبة السكان الفلسطينيين على "سوء سلوكهم" المتمثّل في "حق الاختيار"، الذي يُفترض أن الولايات المتحدة الأمريكية تُروِّج له.
قابل الإسرائيليون والأمريكيون نتائج انتخابات عام 2006 وما ترتب عليها، بفرض سلسلة من الإجراءات العقابية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة
ويسلط الكتاب الضوء على التكتيكات الخبيثة التي استُخدمت لتقويض الديمقراطية في فلسطين، بما في ذلك تسليح "الميليشيا التي يقودها دحلان"، بحسب تشومسكي، لتنتزع بالقوة ما خسرته في الانتخابات. وذلك بالإضافة إلى السياسات والممارسات التي مهّدت للإبادة المتصاعدة في غزة. وهي ممارسات تؤكد رغبة الإسرائيليين بالحفاظ على السيطرة على قطاع غزة رغم انسحابهم منه.
وعلى الرغم من النظرة القاتمة بشأن السياسة الأمريكية تجاه فلسطين، إلا أن تشومسكي يرى أنه من الممكن أن تتغير، ولكن هذا مرهون بنشأة مجتمع ديمقراطي حقيقي، حيث يمارس الجمهور المطَّلع تأثيرًا في القرارات السياسية.
وبالتعمق في التاريخ، يواجه الكتاب إنكار النكبة، ومحاولة محوها من الذاكرة الجماعية، وما ترتب عليها من طرد وتهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين وتشريدهم لأجل إقامة دولة "إسرائيل" عام 1948. ومن خلال البحث الدقيق والتحليل المعمق، يفكك الكاتبان أسطورة تأسيس "إسرائيل" باعتبارها "معجزة العودة إلى الوطن"، ليكشفا بدلاً من ذلك عن مشروع استعماري وحشي يقوم على القضاء على وجود الشعب الفلسطيني.
وبينما روَّجت الصهيونية لما جرى في عام 1948، الذي شهد كمًا هائلًا من الروايات المتضاربة والحقائق المروعة، باعتباره إنجازًا بالغ الأهمية في الذاكرة اليهودية الجماعية، يرى بابيه أن سنة 1948 سجّلت: "الفصل الأسوأ في التاريخ اليهودي. وفعل اليهود في تلك السنة في فسلطين ما لم يفعلوه في أي مكان آخر في الألفي سنة الماضية"، حيث عانى الفلسطينيون من عمليات الطرد والدمار والفظائع التي تشير إلى مشروع استعماري وقح. والجهود المتضافرة التي تبذلها إسرائيل لمحو هذه الفظائع من الذاكرة الجماعية، واستبدالها بحكايات البطولة والبراعة العسكرية، توضح بشكل أكبر الطبيعة الخبيثة للإنكار التاريخي.
ويؤرخ الكتاب بدقة لأحداث عام 1948، حيث تم تدمير 500 قرية فلسطينية و11 ضاحية، وطرد 700 ألف فلسطيني قسرًا من منازلهم في إطار حملة تطهير عرقي شرعت العصابات الصهيونية في ممارستها ضد الفلسطينيين، مما خلف إرثًا من السلب والتهجير الذي لا يزال يتردد صداه حتى يومنا هذا.
ومع أن إنكار النكبة استمر لعقود من الزمن، إلا أن التشققات في جدار الإنكار بدأت بالظهور في الثمانينيات تحفّزها جرائم الحرب التي ارتكبتها "إسرائيل"، وظهور مؤرخين جدد يتحدون الروايات الصهيونية. وعلى الرغم من النكسات، فإن الأقلية الفلسطينية في "إسرائيل"، وبعض المنظمات اليهودية، كافحت بلا كلل ضد إنكار التاريخ بهدف وضع الآخرين أمام الحقائق الصادمة و"غير المريحة"، وضرورة المحاسبة على فظائع الماضي.
وتتبع بابيه عبر وضع الصراع في غزة ضمن سياق تاريخي واسع، جذور السياسات العدوانية الإسرائيلية التي تعود إلى تأسيسها عام 1948، واحتلالها لغزة عام 1967. كما سلط الضوء على الأسس الأيديولوجية لتصرفات "إسرائيل"، بما في ذلك تبنيها لأساليب التطهير العرقي وتحويل غزة إلى سجن افتراضي.
وبالإضافة إلى ما سبق، يكشف الكتاب عن فشل المجتمع الدولي في معالجة الأسباب الجذرية للعدوان الإسرائيلي كما تجلّى في الاستجابة غير الفعالة لعملية "الرصاص المصبوب"، أواخر 2008 بداية 2009، والصراعات اللاحقة.
ويتحدى الكتاب كذلك الآراء السائدة حول حل الدولتين باعتباره الحل الأمثل والوحيد لـ"الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين"، ويدعو بدلًا من ذلك إلى مسارات بديلة متجذرة في مبادئ المساواة وحقوق الإنسان وتقرير المصير لجميع سكان المنطقة.
ويدحض أيضًا المقولات التي تدعي بأن "إسرائيل" دولة ديمقراطية، إذ قال بابيه: "إسرائيل ليست ديمقراطية. ولا يمكن لبلد يحتل شعبًا آخر أكثر من أربعين عامًا، ويحرمه من أبسط الحقوق المدنية والإنسانية، أن يكون ديمقراطيًا. والبلد الذي يمارس سياسة تمييز ضد خُمس مواطنيه الفلسطينيين في داخل حدود 1967، لا يمكنه أن يكون ديمقراطيًا".