22-ديسمبر-2023
غلاف كتاب يد الله

كتاب يد الله (الترا صوت)

يدفعنا استمرار دعم تأييد الولايات المتحدة الأمريكية لسياسات "إسرائيل" وأفعالها الشنيعة إلى النظر إلى ما هو أبعد من اعتبار هذا التأييد الأعمى تقاربًا في المصالح بينهما، خاصةً في ظل الضغط العالمي لوقف إطلاق النار، الذي ترفضه الولايات المتحدة.

في كتابها "يد الله: لماذا تضحي الولايات المتحدة بمصالحها من أجل إسرائيل؟" تُقدِّم الصحفية الأمريكية غريس هالسل منظورًا مختلفًا حول سبب تأييد الولايات المتحدة لـ"إسرائيل" عبر إعادة النظر في المفاهيم الفكرية للأصولية المسيحية الإنجيلية الأمريكية، والكشف عن دورها المؤثر في تشكيل القرارات السياسية الأمريكية، وخاصةً تلك المتعلقة بالشرق الأوسط.

يكشف الكتاب عن دور الأصولية المسيحية الإنجيلية الأمريكية في دعم حكومة الولايات المتحدة لـ"إسرائيل" وتشكيل قراراتها تجاه منطقة الشرق الأوسط

تُحدِّد هالسل شكلين متميزين للصهيونية هما: المسيحية واليهودية. وتحدِّد كذلك مظهرين لمعاداة السامية: أحدهما مدفوع بالرغبة في تخليص العالم من اليهود، والآخر يسعى إلى جمعهم في فلسطين أو "إسرائيل"، باعتبارها ساحة المعركة المتنبأ بها، أي "معركة هرمجدون" والعودة المنتظرة للمسيح. وتبيّن الكاتبة هنا كيف يتم توظيف هذه الفكرة لتغذية التلاعب السياسي والاستغلال المالي.

تعترف هالسل في البداية بأن فهمها الأولي للشرق الأوسط، مثل العديد من الأمريكيين، قد تشكَّل من خلال قصص العهد القديم. لكنه زاد في الستينيات مع انتشار المناقشات حول هرمجدون، والنشوة الدينية، والاعتقاد بأن الجيل الحالي محكوم عليه بالهلاك، مما مثّل تحولًا محوريًا في الوعي الجماعي.

بدأت هالسل حينها بالبحث عن نظرية هرمجدون. وقامت في سبيل ذلك برحلتين إلى الأرض المقدسة، أي فلسطين، بقيادة جيري فولويل المبشر المسيحي الذي يصلي من أجل نهاية العالم، وكشفت عن مدى انتشار هذه النظرية التي تروّجها شخصيات مؤثرة مثل فولويل وهال ليندسي اللذان قالا إن الله يريد للبشر أن يخوضوا معركة رهيبة تضع حدًا للتاريخ الإنساني، وهي معركة هرمجدون التي سيموت فيها المليارات من البشر.

ويُقدَّر عدد الأصوليين في الولايات المتحدة بحوالي 50 مليون شخص يتوزعون على مختلف العقائد المسيحية، لكن أشد المدافعين عن عقيدة هرمجدون حماسةً هم الذين ينتمون إلى الحركات الإنجيلية والحركات الدينية المتسلطة. وقد وتجاوزت شهرة عقيدة هرمجدون ما يُسمى "المعتوهين" – بحسب وصف الكاتبة – ووصلت إلى أرفع مستوى في السلطة لدرجة أن الرئيس رونالد ريجان قال في عام 1980: "ربما نكون الجيل الذي سيرى هرمجدون".

امتدت رحلة هالسل الاستقصائية إلى "إسرائيل" التي تُعدّ المسرح المركزي الُمفترض لأحداث هرمجدون، وكان معها زوار يُقسمون أن هذا هو المكان الذي ستحدث فيه المعركة الأخيرة بين قوات الخير بقيادة المسيح ضد قوات الشر، مع أن كلمة هرمجدون ذُكرت مرة واحدة في الكتاب المقدس في "سفر الرؤيا": "وجمعهم في مكان يُدعى باللسان العبري هرمجدون" (الفصل 16، الآية 16).

وهذا ليس الدور الوحيد لـ"إسرائيل" في هذه السردية، إذ يتمسك أتباع فولويل بفكرة غريبة عن النشوة الدينية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بوقائع تتعلق بـ"إسرائيل"، أولها أن الله يتوقع عودة اليهود إلى وطنهم، وتلك الخطوة الأولى التي سيليها قيام دولة يهودية، ثم على المسيحيين تبشير الأمم كلها بعقيدتهم الدينية بما في ذلك "إسرائيل". أما الحدث الرابع، فهو حدوث النشوة الدينية التي تعني أنه قبل أن تعم الحروب والمعاناة العالم، سينزل المسيح وينتزع أتباعه انتزاعًا، وهؤلاء هم من سيُكتب لهم النجاة ولن يُعانوا ولو للحظة من عذاب الأيام الأخيرة.

رسّخت هذه النظريات شخصيات مثل سي. آي. سكوفيلد، الذي دمج الخطط السماوية للمسيحيين والخطط الأرضية لليهود، وكشف عن خطوات معينة يحتاج المسيحيون إلى اتخاذها من أجل تسريع عودة المسيح، ورأى أن كل الأحداث الرئيسة تتمحور حول إعادة "إسرائيل" إلى الوجود، وأنه على اليهود أن يفعلوا ما يفعلونه حتى عودة المسيح.

اتجهت هالسل بعد ذلك إلى القدس، بتوجيه من شخص عربي مسلم يُدعى محمود قدّم لها وجهة نظر مختلفة تمامًا، إذ أخبرها أن الصراع لم يكن كمسلمين وعرب مع اليهود كيهود أو كديانة، فما يعتبره المسيحيون واليهود مقدسًا، يعتبره المسلمون كذلك؛ وإنما هو ناتج عن رفض الاعتراف بوجود حقوق مطلقة لأي شخص أو جماعة هنا.

أثار هذا الأمر انتباهها، خاصةً أنها لاحظت في رحلتها مع فولويل أنه كان يتجنب لقاء أي مسيحي هناك، بل وركز في منشوراته على "إسرائيل"، ورافقهم أدلاء سياحيون إسرائيليون فقط، وأقاموا في فنادق إسرائيلية. لكنها استطاعت لقاء محامي يُدعى جوناثان كتّاب أخبرها أن السبب يرجع إلى أن فولويل يريد أن يُطلع الزائرين على المعالم الحجرية ويتجاهل الحجارة الحية، أي المسيحيين الذين حافظوا على المسيحية حية حيثُ ولدت، ويتعامل معهم على أنهم غير موجودين بل وغير مرئيين.

وشرح لها أن هذا الأمر بدأ بعد حركة الإصلاح الديني في أوروبا، لأن الفكر الكاثوليكي التقليدي كان قبلها يعتبر أن هذه الأرض مقدسة لعيسى المسيح، ولم تتضمن التعاليم إمكانية عودة اليهود إلى فلسطين، أو أي ذكر للشعب المختار، أو منطق وجود أمة يهودية. بيد أنه، ومنذ بداية حركة الإصلاح، انتقل تركيز الكهنة من تعاليم المسيح البسيطة إلى قصص الحرب في العهد القديم، وبدأ المسيحيون يتعاملون مع التوراة على أنها المرجع الوحيد للتاريخ، وأصبح هذا التحول بمثابة مقدمة لظهور المذاهب الإنجيلية التي تتمحور حول هرمجدون وإعادة تأسيس "إسرائيل" في عام 1948.

أكد كتّاب للكاتبة ما سمعته من محمود الذي أخبرها أنه كفلسطيني ينتمي إلى شعب قديم عاش في فلسطين لفترات أطول مما أقام وعاش العبرانيون. ومع ذلك، يحذف المسيحيون الأصوليون 2000 سنة، ويختصرون تاريخ فلسطين بالوجود اليهودي هنا، ويتظاهرون بأنهم ليسوا هنا ومن ثم ينكرون أي حقوق لهم.

تُعيد هالسل النظر في المفاهيم الفكرية للأصولية المسيحية الإنجيلية الأمريكية لفهم أسباب الدعم الأمريكي لـ"إسرائيل"

واكتشفت المؤلفة وجود خطط مدبرة لمحو الآثار الإسلامية وتهيئة الظروف لحرب دينية، بهدف إجبار المسيح على التدخل. وقد شهدت مدينة القدس، منذ احتلال "إسرائيل" لها  عام 1967، هجمات على الأماكن الإسلامية المقدسة، مما يعكس الرغبة في إقامة السيادة اليهودية على المدينة.

تستكشف الكاتبة في الأقسام الأخيرة من كتابها العلاقة بين اليمين المسيحي واللاسامية، فالكنيسة المسيحية كانت على مدى تاريخها معادية للسامية، غير أنه ومع حركة الإصلاح تحوَّل الكثير من المسيحيين من كراهية اليهود إلى نوع آخر من التمييز يُدعى "السامية الفلسفية"، التي تدعو إلى اعتبار اليهود شركاء محبوبين ليس لأنهم يتبعون الديانة اليهودية، ولكن لأنهم سيلعبون في اعتقادهم دورًا في خلاص المسيحيين، ولذلك يؤيد الأصوليون المسيحيون "إسرائيل" وممارساتها مهما كانت.