16-فبراير-2020

الروائي التونسي كمال الرياحي

يقول الروائيّ الفرنسيّ ستندال إنّ "السياسة داخل عمل أدبيّ، تشبه طلقة مسدّس وسط حفل موسيقيّ". قد تُعنى بعض الأجناس الأدبيّة -مثل الرواية- أساسًا بالسياسة، بل يصل بعض الروائيّين إلى اعتبار أنّ كلّ رواية لها بعدٌ سياسيٌّ بامتياز، خاصّة تلك الخارجة عن المألوف والمحطّمة لكلّ تابوهات المجتمع.

أعتقد أنّ الروايات السياسيّة صاخبة مثل حفلات الروك أند رول الموسيقيّة، إذ إنّها زاخرة بالحركة والانفعالات البشريّة مثل الغضب والاكتئاب والرغبة بالتحرّر. إذا اعتبرنا الغيتار المتحكّم الأساسيّ في إيقاع موسيقى الروك أند رول، فإنّ رواية الروائيّ التونسيّ كمال الرياحي الجديدة "البيريتا يكسب دائمًا" (المتوسّط، 2019) جعلت  المسدّس المحرّك الرئيسيّ لأحداثها.

تَكْمُنُ حقيقة الاغتيالات وسط المسدّس

"البيريتا" نوع من المسدّسات الايطاليّة الصنع، وهي على ملك ضابط تونسيّ يسمّى علي كْلَاْب. تسرد الرواية قصّة تحقيق قاده لتبيان حقيقة مقتل صحفيّ تونسيّ، بعد أن اكتشفت جثّته بيّة ابنة المرأة التي تسكن فوق شقّة القتيل، قضيّة قتل يعاود فيها مسدّس الضابط المفقود الظهور وسط مذكّرات الصحفيّ.

مسدّس البيريتا تمّ استعماله في اغتيال الشهيد شكري بلعيد السياسيّ التونسيّ سنة 2013

في الحقيقة، مسدّس البيريتا تمّ استعماله في اغتيال الشهيد شكري بلعيد السياسيّ التونسيّ سنة 2013. لا تزال حقائق الاغتيال مبهمة إلى الآن، ولا تزال تنكر وزارة الداخليّة التونسيّة امتلاك عناصرها لهذا السلاح. غموض استند عليه كاتب الرواية لسرد أحداث الرواية وحبكها جاعلًا منها لوحة من قطع الأحجية المتقطّعة، وحثّ القرّاء على جمعها وترتيبها لفكّ طلاسم أحجيته.

اقرأ/ي أيضًا: كمال الرياحي.. الحفر في النذالة

"البيريتا مسدّس ثقيل كاليوم الأوّل من جريمة" على حدّ تعبير الرياحي، إذ بقيت كوابيس الاغتيالات في تونس جاثمة على العباد كالجحيم، وظلّت البلاد قابعة وسط نفق مظلم يشبه ماسورة مسدّس البيريتا. نجحت الأجواء الغامضة والمرعبة السائدة على طول الرواية في إبقاء القارئ رصاصة وسط تلك الماسورة متردّدًا في الخروج. مثّلت الرصاصة مرادفًا لحقيقة الاغتيال التي قبعت وسط الظلمة وأبت الخروج إلى النور.

قصّة ديف مع الصحفيّ الذي أكلتْ الذئاب أمّه

يعثر علي كْلَاْب، أحد شخوص رواية "الغوريلا" لكمال الرياحي،  ضابط الشرطة الذي حقّق مع متسلّق الساعة المنتصبة عاليًا وسط شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة التونسيّة، وهو حَدَثٌ غير مسبوق وقع قبل الثورة التونسيّة في 2011. يعثر الضابط على يوميّات الصحفيّ وتسجيلات بهاتف جوّال في شقّته. علي كْلَاْب الذي فقد مكانته بعد الثورة، وخسر خصيتيه واستولى عليه مرض السكري وأدمن على دواء الباركيزول أو حبوب السعادة كما يلقّبها البعض والمضادّة للهلوسات.

كانت يوميّات يوسف غربال الصحفيّ بجريدة "الواشنطوني العربي" والذي كان يخطّط للانتحار إذ يقول فيما كتبه "لم ينتحر أحدٌ هذا العام. هل هذه الحياة الرثَّةُ ما زالت جديرة بأن تعاش؟ لماذا تصرّ كلّ هذه الحشود على البقاء ومحاولة العيش مثل أبطال يائسين في رواية مخفقة؟"، وفي ظلّ اشتغاله على رواية ما بعد الحداثة، بقي كمال الرياحي وفيًّا كعادته لتقنياته في الكتابة الروائيّة خاصّة الكتابة المشهديّة والاستطراد وغيرها، وأضاف هذه المرّة أدب التراسل واليوميّات وركّز خاصّة على الحوار الذي مثّل حيّزًا مهمًّا في تأثيث الأحداث وتحفيزها والتسريع بها، كما زجّ الرياحي بسيرة الكاتب الأمريكيّ ديفيد فوستر والاس وسط أحداث الرواية.

 يتماهى يوسف غربال في يوميّاته مع ديف في سعيه نحو الانتحار وتبرير ذلك. دجو الصحفيّ الذي علم –عبر صفحات الواشنطوني التي ورثها عن فلسطينيّ حشّاش والباحث عن مكان يؤويه في هذا العالم- بانتحار واحد من أهمّ روائيّي ما بعد الحداثة في أمريكا والعالم وصاحب رواية "دعابة لا نهائيّة" الضخمة وذات الألف صفحة التي يعتقد قراءها أنّها لا تنتهي.

يوسف ذلك الكاتب الذي أكلت الذئاب أمّه وورث عن جارته كلبًا، وقطع علي كْلَاْب إبهام قدمه ما جعله نهما للجوارب حتّى يغطي تلك العاهة. مثّلت هذه الشخصيّة بتناقضاتها وجنونها وإبداعها مثالًا لاغتيال الصحافة وحريّة التعبير والحلم والحياة، والمسدّس سلاح قتل المستقبل، وكأنّ البيريتا هي تلك الروح المنتقلة من شخص لآخر، والمختفية بين الأقنعة الشاهدة والساكتة عن الاغتيالات التي حدثت في تونس، وفشلت في كشف اللّثام عن تلك الذئاب التي أكلتْ أمّنا المشتركة.

الكلاب والخنازير والحمام والأدغال المرعبة

تشعر بالرعب خلال توغّلك في الرواية، إذ شحنها الرياحي بصور الجثث والجيف والدماء والنتونة والكلاب والذئاب والخنازير والأفاعي. تحاصرك الأنياب من كلّ جانب مع تقدّم القارئ في الصفحات. تؤثّث جثّة خنزير مذبوح يوميّات يوسف غربال، حدثٌ يعدُّ بمثابة إعلان روائيّ على استباحة المحرّم والمسكوت عنه. يهرب كلبٌ بخصيتيْ علي كلاب، ويقطع كلابُ المحقّق إصبع قدم الصحفيّ وتملأ جثث الكلاب التي قتلها السوق المركزيّة، وتصير جثث الكلاب تلك تساوي جثث الكراتين في الإدارات.

أراد الرياحي وضع القارئ وسط غابة يسود فيها قانون الغاب، ونجد فيها تباينا بين سكّانها "أصبحنا نسمع عن كلاب راقية وأخرى منحطّة"، التي وتتبادل السباب فيما بينها باستخدام صفات الحيوانات "أنت لست سوى جرذ، تعيش على الفتات"، وقد يذكّرك وصف رجال الشرطة من طرف رئيسهم بالقردة بفيلم "كوكب القردة"، الذي تمتلك فيه القرود الأسلحة لتصبح المتحكّمة في كلّ شيء.

 يصف يوسف نفسه في أحد تأملاته: "كنتُ غافلًا كما شجرة بلّوط ينخرها سنجاب نشيط.كنتُ كما الشجرة منشغلًا عن مكر السنجاب بمراقبة الثعابين التي تخيط الثقوب التي يحدثها نقَّار الخشب في أسفل جذعي"، في تأكيد لسرد موجّهٌ يراد به تفكيك هشاشة مجتمع تونسيّ متوحّش اتّضحت بعد ثورة 2011.

وصل الأمر بكمال الرياحي إلى وصف عمليّة جنسيّة عبر تسمية قضيب الشاب بـ"جديْ" وفرج الفتاة بـ"خروف"، واختتم وصفه بـ"كانت قرون الجدي حادّة على الخروف الناعم". أدوات فنيّة تُصوّر الصراعات داخل المجتمع وحالة الانفصام العاطفي والوجوديّ الذي تتخبّط فيه الشخصيّات داخل الرواية، واغتيالات 2013 ما هي إلاّ تمظهر أساسيٌّ لتفشّي العنف والموت أو الانتحار بلا طائل.

نَسَفَ كمال الرياحي كلّ الصور النمطيّة عن الحيوانات لأجل تشكيل مناخاته الروائيّة، وهنا يتنزّل أيضًا توظيف طيور الحمام.  مثّل ظهور شخصيّة الأسترالي -الذي خبّأه الرياحي في جراب كنغر أنثى- الشاهد الذي كان يطعم الحمام أمام جامع الفتح. ووجب التنويه أنّ تكرار عبارة "طار الحمام" لم يكن اعتباطيًّا بل مقصودًا، ليس فقط لارتباط الحمام بالسلام بل باقتران تأبين شكري بلعيد من طرف السياسيّ التونسيّ حمّة الحمّامي بجملة "نم يا حبيبي نم"، المأخوذة من قصيد محمود درويش الشهيرة "يطير الحمام"، وكأنّها صرخة روائيّة تقول: "حبيبي سأبكي عليكَ، عليكَ عليكَ".

هذيانات وفوضى خلاّقة

كمال الرياحي الكاتب التونسيّ، صاحب روايات "المشرط" و"الغوريلا" و"عشيقات النذل" ويوميّات "واحد صفر للقتيل"، تعمّد أن يضع القارئ وسط جوّ سوداويّ محاولًا التوغّل في عالم الانتحار والقتل، وذلك يصبّ في صلب الرواية وخطورة موضوعها، إذ تبدو عوالمها فوضويّة لكنّها خلاّقة على حدّ تعبير وزيرة خارجيّة أمريكا السابقة كوندوليزا رايس.

تمجّد رواية "البيريتا يكسب دائمًا" الجيفة كما فعل ذلك الشاعر الفرنسيّ شارل بودلير

تظهر أصوات الشخصيّات المختلفة وبوحها بمشاعرها مثل الهذيانات أو الهلوسات وتحاول كلّ منها الاختباء والاحتماء من شرور المجتمع، "الكلّ يمشي ويضرط في هذه البلاد" كما جاء على لسان إحدى الشخصيّات، إنّها شخوص مبتورة من الدنيا مثل إبهام قدم يوسف غربال وأقلام رصاص تدور وسط برّاية وتصطدم كالعميان بأطرافها.

اقرأ/ي أيضًا: "واحد - صفر للقتيل".. كمال الرياحي طاردًا الأرواح بالكتابة

تمجّد "البيريتا يكسب دائمًا" الجيفة كما فعل ذلك الشاعر الفرنسيّ شارل بودلير في قصيدته المشهورة التي تحمل نفس العنوان، قالبًا مفهوم الفنّ الروائيّ الأخلاقيّ والجماليّ ومازجًا بين القبح والسخرية، وكأنّ الرياحي أراد أن يردّد جملة بودلير "كان ثمة كلب قلق قابعًا وراء الصخور، ينظر إلينا شزرًا، مترقبًا لحظة ذهابنا ليعود فَيَلْتَهِمَ العظمة التي تركتها من هذا الحطام".

 

اقرأ/ي أيضًا:

"فنّ الرواية" لكمال الرياحي.. هرولة لذيذة نحو أهمّ كتّاب الرواية

كمال الرياحي في "البيريتا يكسب دائمًا".. سيرة مسدس الاغتيالات