21-مارس-2019

شارع في تونس (The Best Travelled)

12 آذار/مارس 2019

وصلت الحصيلة إلى اثني عشر رضيعًا، وترجّح بعض المصادر أنّ العدد سيرتفع.

قمت بحصّة سباحة هذا اليوم. إنّها المرّة الأولى رغم أنّني قضّيت أكثر من أسبوع هنا. رافقني روبرت فورتغنز الرسّام الهولندي. كنّا نراقب تلك العجوز الصينيّة وهي تسبح بصفة متواصلة لأكثر من ساعة تقريبًا. كانت أمّ النحّاتة ليي زهاو. كانت تعمل معها صباحًا وتسبح مساء كلّ يوم.  تأمّلت حركات يديها وساقيها أثناء سباحتها، كانت تسبح دون توقّف. لبست مايوه سباحة أسود وغطاء للرأس. شعرها قصير بالمناسبة وكانت لا تفهم إلا اللّغة الصينيّة. قلت لروبرت: "لو كنت في مثل عمرها، لكنت في عداد الميّتين".

"أبلغ من العمر ثمانية وخمسين عامًا، وأتمنّى أن أكون مثلها عندما أبلغ هذا العمر".

روى لي بعض من يعملون بالنحت أنّ ليي زهاو نفسها آلهة عمل، هي لا تكلّ ولا تملّ قصّ الحجر. اطّلعت على أعمالهم ثلاث أو أربع مرّات. ملأ الغبار المكان بفعل العمل على الرخام. يجب أن أحني القبعة لهؤلاء النحّاتين، عملهم ليس هيّنًا.

حكت لنا ليي أنّ أمّها تواظب على السباحة كلّ يوم، وكانت لاعبة جمباز في صغرها. عملت في الخمسينات ومنذ أن كانت في الرابعة عشر من عمرها في عروض الأزياء.

"التقاها أبي أوّل مرّة في مستشفى حينما كانت تزور إحدى قريباتها، وأصرّ الرسّام والنحات وأستاذ كليّة الفنون على رسم بورتريه لها. بعد أربع سنوات التقاها في رحاب الجامعة التي يدرّس بها، كانت موديلا لطلبته. أحبّها وتزوّجها وأنجباني قبل أن يدخل أبي السجن بسبب نضالاته مع الحزب الشيوعي الصينيّ. أتدركون أنّني قضيت اثني عشر عامًا لم أر فيها أبي، وخفت لما رأيته أوّل مرّة حليق الشعر ورأسه ببعض الندوب احتميت بجسد أمّي كي لا أراه".

روت لنا ليي أنّ أمّها فائقة الجمال عملت كلّ شيء لأجل أن تعيلها هي وأخاها، قبل أن تلتحق بمجال التدريس ويعود والدها من سجنه. ورثت ليي موهبة النحت من أبيها الذي كان فنّانًا مشهورًا في بلدها. كنت أستمع إلى حديثها عن أمّها بكلّ فخر على العشاء في نزل البرتقال. سألت ليي عن عمر والدتها فأجابتني "ثلاثة وثمانون عامًا!".

صعقت حقيقة! تذكّرت نفسي وسط المسبح، أسبح في لهاثي بعد بضعة أمتار من السباحة. جابت المياه جيئة وذهابًا لأكثر من ساعة، مع استراحة قدّرت بعشر دقائق تقريبًا. كانت امرأة مذهلة فعلًا. فهمت سرّ هيمنة الصين على العالم. كانت ليي تقول: "السرّ: الأكل الجيّد والنوم الطويل".

في أوطاننا ننام كثيرًا ونأكل كثيرًا أيضًا، لكنّنا لسنا كالصينيّين!

عدت إلى غرفتي بعد العشاء. فتحت التلفزيون، كانت إعادة لبرنامج حواريّ في إحدى القنوات يحلّون خبرًا جديدًا: معلّم في إحدى مدارس مدينة صفاقس يغتصب أكثر من عشرين تلميذًا أغلبهم من الإناث.

           

13 آذار/مارس 2019

لأوّل مرّة في حياتي أكتشف جمال هذا البلد، بلدي. كنت أتجوّل رفقة المجموعة بين حمّامات أنطونيوس ومتحف قرطاج وبين أنهج وأسواق سيدي بوسعيد. كنت مثل شخص يكتشف مكانًا جديدًا، رغم معرفتي الجيّدة بالأماكن. يشبه هذا الشعور بشخص فقد الذاكرة واستعادها من جديد، أو أعمى استعاد بصره بعد عمليّة زرع قرنيّة ناجحة. تستحقّ الذاكرة أحيانًا إلى صعقة كهربائيّة للنبض، إنّها عضلة تضخّ الأشياء الجميلة إلى زوايا الروح المظلمة.

استعدت هذا اليوم عشيّة عقد قران زواجي بنجاة، كان بفضاء بلديّة سيدي بوسعيد. كان ذلك قبل يومين من عيدي ميلادي الموافق لعيد مولد رئيس تونس الأوّل الحبيب بورقيبة.

أدركت منذ الصباح أنّ هذا اليوم مخصّص للذاكرة. طفق الجميع إلى أخذ صور فوتوغرافيّة لينعشوا بها ذاكرتهم في المستقبل. تذوّب ذاكرتهم كلّ الألوان، تماما كما يفعلون هم مع لوحاتهم. أدركت-مع كلّ كبسة زرّ في هواتفهم الذكيّة أو آلات تصويرهم- أنّ جمال بلادنا أبعد ما يمكن من محتوى تلك البطاقات البريديّة الركيكة. أجمل بلد في الكون هو الأقدر على ملء ذاكرتك بأكثر ما يمكن من الألوان.

"بلدكم كنز من الألوان، شوقي" هكذا توجّه لي روبرت فورتغنس.

تابع كلامه "سآتي أنا وزوجتي في المرّة القادمة، سأكتري سيّارة وأجوب بلادكم من شمالها إلى جنوبها".

روبرت رسّام هولنديّ ويعيش في بلجيكا، تعرّفت عليه في اليوم الثاني لوصولي وكنّا نتحدّث دوما بعد العشاء. حدّثني عن زياراته للمغرب والكويت خلال ملتقيات للفنون التشكيليّة. أسرّ لي أنّه لا يشعر بالغربة في البلدان العربيّة، رغم تحذير الصحافة المحليّة من انعدام الأمن فيها.

"أحسّ بالدفء كلّما تحدّثت معكم، كأنّني أعيش هنا منذ أعوام!".

تحدّثنا طويلًا البارحة في مقهى النزل، كان التلفزيون يبثّ مقابلة كرة قدم بين جوفنتس الايطاليّ وأتلتيكو مدريد الإسبانيّ. أخبرني روبرت أنّ جدّه كان لاعب كرة قدم في أجاكس الهولنديّ، وأوّل لاعب من هذا الفريق انضمّ إلى المنتخب في أوائل القرن العشرين. تحدّثنا طويلًا وكنت أختلس بين حين وآخر نظرة إلى المقابلة، تأخر جوفنتس في مباراة الذهاب بهدفين، وعليه تعويض ذلك على ميدانه. انتظرت حقيقة ردّة فعل كريستيانو رونالدو!

حدّثني حول دمجه الصور الفوتوغرافيّة في لوحاته، كان يرسم فتيات عاريات ويلوّنهنّ بنفسه قبل تصويرهنّ وتختار زوجته بنفسها الرسامة الموديلات. قلت لنفسي "لو كان رسّامًا عربيًّا وأراد فعل ذلك لقامت زوجته بقتله!"، سألني "هل ترسمون موديلات عاريات في كليّات الفنون؟".

أخبرته

- قبل خمسة عشر عامًا كان طلاّب كليّات الفنون يفعلون ذلك، لكن منذ انتشار التطرّف الدينيّ في البلاد تمّ منع ذلك وصار بعض الرسامين يفعلون ذلك في ورشات رسمهم الخاصّة!

- أحسّ من خلال لوحات الرسامين التونسيّين المشاركين هنا محافظون جدًّا!

- روبرت، هل تعرف أنّ سنة 2012 تعرّضت زوجتي إلى هجوم من طرف متطرّفين دينيّين خلال معرض شخصيّ لها، وحاولت مجموعة أخرى في نفس الفترة حاولوا إحراق أعمال معرض فنّي في فضاء العبدليّة بالمرسى، قيل أنّ تخدش الحياء!

مطّ شفتيه وفتح عينيه تعجّبًا، غلب الاستياء على نظراته من خلال كادر زجاج نظّارته الغليظ.

استدركت قائلًا:

- انحسر نفوذ الإسلاميين بعد ذلك بفعل مقاومة المجتمع المدنيّ والنقابات!

اختلست النظر إلى الشاشة الخضراء التي أمامي ووراء ظهر جليسي. سجّل رونالدو الهدف الثالث في المباراة ورشّح فريقه. كدت أقفز من المقعد حينها، لكنّني تذكّرت أنّ رفيقي روبرت ليس مغرما بكرة القدم.

التقطت لروبرت بعض الصور خلال زيارتنا، ذكّرته أنّ من واجبه أخذ صور لنفسه أيضًا!

تجنّبت إخباره أن الذاكرة تشبه تلك الكرة الملوّنة المملوءة بالهواء، تتناقلها أرجل الحمقى للحصول على فوز وهميّ.

 

اقرأ/ي أيضًا:​

أمومة قيد الرغبة

في ساعة متأخرة من الليل