16-أبريل-2021

من أرشيف مؤسسة الدراسات الفلسطينية

نيسان شهر الخسارات القاسية، التاريخ الفلسطيني المعاصر يدوّن في هذا الشهر بين مجزرة وعملية اغتيال مسارًا طويلًا من عمليات الإجرام الإسرائيلي. ربع قرن باليوم هو الحد الفاصل بين مجزرة دير ياسين والعملية التي استهدفت قادة الثورة الفلسطينية الثلاثة أبو يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر، وتفجير المقر المركزي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في بيروت.

قالت إسرائيل إن عملية فردان هي الرد المباشر على عملية ميونخ، التي استهدفت البعثة الرياضية الاسرائيلية المشاركة في الألعاب الأولمبية التي أقيمت بألمانيا

"ربيع الشباب" هو الاسم الذي أطلقته إسرائيل على العملية، التي تعتبر من أبرز وأقوى العمليات التي استهدفت قادة للثورة الفلسطينية.

اقرأ/ي أيضًا: محجوب عمر.. حكاية فلسطينية

الرواية الرسمية الإسرائيلية والتي من خلالها تبنت إسرائيل العملية في سابقة تعتبر الأولى من نوعها، قالت إن عملية ربيع الشباب هي الرد المباشر على عملية ميونخ، التي استهدفت البعثة الرياضية الاسرائيلية المشاركة في الألعاب الأولمبية التي أقيمت بألمانيا.

حُدِّد للعملية بنك أهداف ما بين أهداف مباشرة وأخرى للتمويه، كان الهدف الأبرز هو استهداف قادة الثورة الثلاثة المقيمين في شارع فردان، أبو يوسف النجار الذي تتهمه إسرائيل بقيادة منظمة أيلول الأسود المسؤولة عن تنفيذ عملية ميونيخ، وكمال عدوان عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول قطاع الغربي الجهاز الذي يشرف عن العمليات بالأراضي المحتلة، وكمال ناصر الناطق الرسمي باسم منظمة التحرير الفلسطينية ومسؤول الإعلام الموحد، بالإضافة لاقتحام مقر الجبهة الديمقراطية الكائن بمنطقة الفاكهاني.

تطلب الأمر جمع معلومات ودعم لوجيستي قام به عملاء للموساد متواجدون في بيروت، تحدثت تقارير استخباراتية وصلت للمقاومة عن أن إسرائيل تخطط لعمل أمني بعد تصاعد موجة العمل الفدائي واستهدافه للمقرات الأمنية والسفارات والمصالح الاسرائيلية في عدد من عواصم العالم.

في كتاب صدر منذ سنوات تحت عنوان "مقاتلة الموساد في بيروت"، يوضح أن الأمر كان أكثر تعقيدًا وتنظيمًا، واستغرق شهورًا عدة قبل تحديد ساعة الصفر واختيارها كانت مرهونة بإشارة من عميلة للموساد تدعى "ياعيل"، بعد تأكد تواجد القادة الثلاثة في بيوتهم.

استطاعت عميلة إسرائيلية استئجار شقة داخل المربع الأمني في بيروت عام 1973 دون تدقيق في هويتها

 في منتصف كانون الثاني/ يناير 1973، أرسل جهاز الموساد إلى بيروت جاسوسة إسرائيلية، تدعى ياعيل، وكان اسمها الكودي نيلسن في مهمة وهمية هي الإعداد لفيلم وثائقي، وقد حصلت على عقد مع شركة إنتاج بريطانية لتسهيل مهمتها الحقيقية والمتمثلة في استطلاع الأهداف المنوي مهاجمتها، يورد الكتاب ما يعتبر خرقًا أمنيًا فاضحًا حيث قامت عميلة الموساد بتأجير شقة تطل على شقق القادة الثلاث بسهولة دون التدقيق في هويتها، بالرغم من كونها أجنبية جاءت لتعيش وسط مربع أمني بامتياز كان يقيم فيه عدد كبير من قادة منظمة التحرير الفلسطينية، وبه مقرات لفصائل الفلسطينية ومكاتب لمنظمة التحرير؟

اقرأ/ي أيضًا: زكي هللو.. رجل الظل

هذا ما مكنها من مراقبة الشقق الثلاث بدقة ورصد مسار وساعات وصول القادة إليها وتصوير الحي ومداخله ومخارجه ومحيط العمارات المستهدفة بدقة لامتناهية، وصولًا إلى تصوير مسارات الوصول من شاطئ البحر وحتى مدخلي العمارتين لتسهيل المهمة لكوماندوس الاغتيال.

تشير المعلومات الإسرائيلية إلى أن قوة الكوماندوس نقلت بحرًا في سفن تابعة لقوات البحرية الإسرائيلية الخاصة من إسرائيل إلى شاطئ بيروت، قدرت المصادر أن عدد المشاركين في العملية والقوات المساندة لها تجاوز 3 آلاف عنصر.

شاركت في العملية وحدة النخبة المسماة سييرت متكال وهي وحدة عسكرية مسؤولة عن عمليات الاغتيال، خاضعة بشكل مباشر لهيئة الأركان العامة بالإضافة لوحدة من المظليين مع كوماندوس بحري، نزل العشرات منهم على شاطئ بيروت عبر زوارق مطاطية نقلو إليها من بوارج حربية كانت جاهزة للتدخل لنجدة المجموعة إن صادف أن تعثرت العملية أو فشلت، وعند وصول القوة إلى الشاطئ كان في انتظارهم أفراد يرتدون ألبسة مدنية هم عملاء للموساد كانوا قد وصلوا إلى بيروت قبل العملية بأسبوع، واستأجروا سيارات لبنانية لنقل الجنود.

 كانت الإجراءات الأمنية أمام المنازل التي سكنها قادة منظمة التحرير، النجار وناصر وعدوان، شبه معدومة

عندما وصلت وحدات الكوماندوس الإسرائيلي إلى موقع سكن القادة الثلاثة، قتل حارس البناية الوحيد بكاتم للصوت، فقد كانت الإجراءات الأمنية أمام المنازل شبه معدومة، في زيارة سابقة طلب منهم ياسر عرفات بعد أن لاحظ غياب الحراسات الأمنية توخي الحذر وتعزيز الحراسة حول بيوتهم، إلا أن ردهم كان بأنهم لا يريدون إزعاج الجيران بإقامة حماية لافتة للنظر في المبنى؟

 اقرأ/ي أيضًا: عبد الرحيم جابر.. قصة فدائي

شارك أفراد من الكوماندوس بلباس مدني كانوا أعضاء فرقة يطلق عليها "كيدون"، أو الخنجر المسموم للاغتيالات، والتي كانت مقيمة في لبنان حيث تمكن كلٌّ من الصعود إلى هدفه، وبعد التأكيد من وضع عبوات صغيرة على بوابات شقق القادة الثلاثة، أصدر إيهود باراك قائد وحدة سييرت متكال الذي قاد العملية أمرًا بتفجير العبوات ثم اقتحام الشقق.

في شقة أبو يوسف النجار بالطابق السادس التي وصل إليها أفراد الكوماندوس عبر المصعد تم نسف بوابة المنزل، استيقظ أبو يوسف وأغلق باب الصالون الذي كان يفصله عن غرفة نومه، وطلب من زوجته أن تناوله المسدس إلا أن أفراد الكوماندوس كانوا أسرع وأطلقوا النار عليه مما أدى إلى إصابته إصابة خطيرة وحاولت زوجته أن تحميه بأن جعلت نفسها حاجزًا بينه وبين القوة المقتحمة التي واصلت إطلاق النار فاستشهد على الفور، وأصيبت زوجته إصابة بالغة فارقت الحياة قبل أن تصل إلى المستشفى، في البناية المقابلة وفي الشقة الواقعة في الدور الثاني كان كمال عدوان لا يزال يعمل فتنبه إلى صوت انفجار باب شقته فتناول بندقية كلاشينكوف كانت بحوزته، لكنه تردد للحظة في إطلاق النار لأنه شاهد رجلًا و سيدة عند باب الشقة فأطلقوا عليه وابلًا من الرصاص. أصيب في رقبته. في حين باغتته مجموعة ثانية تسللت من نافذة المطبخ إذ أطلقت النار عليه من وراء مما أدى إلى استشهاده أمام زوجته وولديه، في الطابق الثالث من نفس البناية سمع كمال ناصر صوت انفجار شقته فخرج لملاقاة المجموعة وأطلق النار من مسدسه فأصاب أحد أفرادها، لكنه تعرض لوابل من إطلاق النار أسقطه شهيدًا.

يتحدث صلاح خلف أبو إياد عن تلك الليلة الرهيبة في كتابه "فلسطيني بلا هوية": "قررت أن أذهب إلى شارع فردان حيث يقع مبنى الشهداء الثلاثة وبالنظر إلى المخاطر التي كانت لا تزال قائمة بالنسبة إلى التنقل في المدينة، فإن عرفات حاول أن يردعني عن ذلك لكن دون جدوى. وكان أن أصابني المشهد الذي كان ينتظرني في مسكن كمال ناصر بالهلع، فقد رأيت صديقي – عبر غيمة من الدخان المتولد من صاروخ أطلقه الإسرائيليون قبل اقتحامهم المنزل بلحظات – ممددًا في وضعية المصلوب وكان وجهه يبدو وكأنه مخرم بخمس عشر رصاصة على الأقل، فقاتلوه لم يهملوا الرموز في عجالة مهمتهم المشؤومة، ولم ينسوا أن كمال مسيحي الطائفة وناطق باسم منظمة التحرير".

في حي الفاكهاني أمام المقر المركزي للجبهة الديمقراطية، كانت الأجواء شديدة التوتر تلك الليلة بعد تواردت أنباء عن نية مقاتلي فصيل أحمد جبريل شن هجوم على المقر، في ترجمة صريحة لطريقة تعاطي الفصائل الفلسطينية لحل خلافاتها في ذلك الوقت، تم تسيير دوريات مزودة برشاشات لتمشيط محيط المقر المركزي بشكل مستمر، وأن يتم تمويه مقر الحراسات في محيطه بحيث يبدو الوضع عاديًا فيما يتم تجهيز الموقع برشاشات مدفع الدوشكا مخفي عن الأنظار، خاصة في ظل تعليمات الأجهزة الأمنية اللبنانية بمنع الظهور المسلح في الأماكن السكنية.

 لم يكن لعملية فردان أن تحدث بكل تلك السهولة لولا تواطؤ شركاء محليين في الداخل اللبناني سهّلوا عملية الاغتيال

لا نعرف هل القدر من لعب لعبته ليلتها بجعل حالة التأهب القصوى انتظارًا لهجوم مجموعات أحمد جبريل على المقر، فكانت من حيث لا يدري أحد استعدادات لانتظار الهجوم الإسرائيلي!

اقرأ/ي أيضًا: ضرورة سلامة كيلة.. براعة تخريب إشكالياتنا الرائجة

بعد منتصف الليل شوهدت مجموعة راجلة تتقدم نحو المكان بطريقة لفتت انتباه الحرس المناوب، فبادر أحدهم إلى إطلاق النار على المتقدمين بعد أن رفضوا الاستجابة لندائه بالتوقف، ولم يتصور أحد أن القادمين هم سرية المظليين بقيادة أمنون شاحاك الذي سيرأس قيادة هيئة الاركان الاسرائيلية بعد سنوات من العملية،

وقع تبادل عنيف لإطلاق النار، إذ لجأ المهاجمون إلى مبنى مجاور قيد الإنجاز يبدو أنه كان مستطلعًا مسبقًا من قبل عملاء وحدة كيدون، استعملت الأسلحة الفردية وقنابل الاينيرجا وكذلك مدفع دوشكا الرشاش في الاشتباك أدى إلى مقتل عنصريين من القوة المهاجمة، وإصابة ثالثة بجروح خطيرة، حاوت إحدى الفرق الإسرائيلية التقدم نحو المبنى تحت تغطية نارية كثيفة أمّنها باقي افراد المجموعة ثم فجأة تقدمت بسرعة قصوى سيارة أبوابها الأربعة مفتوحة وكذلك صندوقها الخلفي ونزل أفرادها وزرعوا عند مدخل المبنى عبوات متفجرة، تسبّب انفجارها في تضرر المدخل وطابقيين من المبنى المكون من سبع طوابق، استغل الانفجار وتصاعد الدخان لسحب القتيلين والجريح والانسحاب بهم تحت تغطية نيران كثيفة.

فيما بعد عثر وراء المجموعة المنسحبة أسلحة فردية عبارة، وهي مسدسات كاتمة للصوت وقنابل يدوية ومتفجرات كانت معدة لتفجير المبنى.

وفق تقديرات وتقارير نشرت فيما بعد، فإن مجموعة المظليين الإسرائيلية كانت تهدف إلى اقتحام مقر الجبهة الديمقراطية وتصفية من فيه، وأن المستهدف بشكل خاص أحد قادة الجبهة والمسؤول عن العمل العسكري في الأراضي المحتلة، بالإضافة لأخذ الارشيف المتواجد داخل المقر الذي يخص عمل الجبهة بالداخل ومن ثم تفجيره، اللافت أن الجبهة الديمقراطية وضعت كل دوائرها التنظيمية والمالية والأمنية والعسكرية في نفس المبنى، في انتهاك صريح لأدنى القواعد الأمنية المتعارف عليها.

سقط للجبهة خمسة شهداء دافعوا عن مقرهم ببسالة، من بينهم مسؤول أمن المقر وهم الشهداء: محمد فارس اسماعيل الويس، محمد سالم أبو الشعر، غانم عبد الرحمن سمارة، دياب موسى أبو شحادة، صلاح صبحي أحمد خليل السبع.

الهدف غير المعلن لعملية فردان لم يكن سوى المقدمة لجر المقاومة الفلسطينية للمستنقع اللبناني، فالأحداث التي تلت العملية لم تكن منفصلة،

رافق عمليات الهجوم الأساسية عمليات أخرى للتمويه، حيث استهدفت مجموعة كوماندوس ثالثة تدمير ورشة للتصنيع في الأوزاعي ومخرطة في الدورة شمالي بيروت ومرآب لإصلاح السيارات في صيدا، يقال إنها ورش يتم فيها تصنيع الاسلحة وإعداد القنابل.

اقرأ/ي أيضًا: إيفا شتال.. سميرة المخيم

واضح أن عملية فردان لم يكن لها أن تحدث بكل تلك السهولة لولا تواطؤ شركاء محليين في الداخل اللبناني سهّلوا عملية الاغتيال، إذ كيف نفسّر قيام وحدات الاغتيال بمهمتها بسلاسة وحرية دون أن تعترضها أي قوة من الأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانية؟ كذلك تم منع قوة من الكفاح المسلح الفلسطيني من الوصول إلى مكان الحادث وقت وقوع الهجوم، بالإضافة لانقطاع تام للتيار الكهربائي عن شارع فردان وقت بداية العملية مما سهل عمل القوة المهاجمة، وما يزيد من تأكيد تلك الشكوك والشواهد انه بعد فترة من حدوث العملية وفي 11 تموز/يوليو 1973 اعتقل الأمن اللبناني في طرابلس شخص ألماني يحمل جواز سفر مزوّر باسم أورلخ لوسبرغ تبين فيما بعد أن اسمه الحقيقي هو حجاي هداس، وكان مسؤول شبكة كيدون في لبنان التي وصل عدد من أعضائها الى طرابلس وحاولت استكمال مهمتها، وذلك بخلق صدام فلسطيني لبناني في الشمال عن طريق محاولة اغتيال القائد الفلسطيني سعيد السبع في مدينة طرابلس، وقد اعترف اورلخ لوسبرغ بعد تحقيق مكثف قاده العميد عصام أبو زكي بتواجده يوم 10 نيسان/أبريل في شارع فردان لينهار بعدها ويعترف أنه كان أحد أفراد المجموعة التي شاركت في عملية فردان.

حدثت تدخلات من جهات محلية ودولية للضغط على السلطة اللبنانية من أجل الإفراج عن العميل الإسرائيلي. تدخل جول بستاني مدير المخابرات اللبنانية، والسفارتان الأمريكية والألمانية في بيروت، وفي الأخير تدخل المكتب الثاني واستلم المعتقل وقام بتسفيره خارج لبنان.

القيادة الفلسطينية وجهت اتهامًا مباشرًا لبعض القيادات السياسية والعسكرية والأمنية اللبنانية بالتورط المباشر والتواطؤ مع الإسرائيليين في ‏عملية فردان، والتي كانت سببًا مباشرًا لاندلاع صدامات عنيفة في أيار/ مايو 1973 بين الجيش اللبناني وفصائل المقاومة الفلسطينيّة.

يتضح أن الهدف غير المعلن لعملية فردان لم يكن سوى المقدمة لجر المقاومة الفلسطينية للمستنقع اللبناني، فالأحداث التي تلت العملية لم تكن منفصلة، بل في صلب هذا المخطط الذي انتهى بتورط الثورة في أتون الحرب الأهلية اللبنانية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عبد الرحيم جابر.. قصة فدائي

عزمي الصغير.. شرف العسكرية الفلسطينية