10-مايو-2024
كاريكاتير لـ لوك ديشميكر/ بلجيكا

كاريكاتير لـ لوك ديشميكر/ بلجيكا

لا يختلف كثيرون على أن العدوان الإسرائيلي على غزة سيؤسس لمرحلة جديدة في الصراع العربي الإسرائيلي، ليس بدءًا بما يسمى "اليوم التالي للحرب"، بل في تحديد شكل الصراع لسنوات طويلة مقبلة.

إلا أنه, في خضم مقتلة غزة المستمرة, كان لافتًا للغاية تعالي الأصوات "العقلانية" التي كرّست نفسها للهجوم على خيار المقاومة في غزة بشنّ عملية "طوفان الأقصى"، واعتبرت أن لها كل الحق في نقد هذا الخيار الذي، بحسبها، استغلته إسرائيل لارتكاب المجزرة بحق الشعب الفلسطيني في غزة والتنكيل به وتشريده وتجويعه، وتدمير البنية التحتية في القطاع لجعله مكانًا غير قابل للحياة.

الخلاف لا يكمن بامتلاك هذا الحقّ أم لا، لأنه يأخذنا في اتجاه يجعل الأمر لا يخرج عن سجال تسجيل النقاط، والحدث أكبر من ذلك.

لا يمكن لعاقل أن ينكر المآسي والأهوال التي يمر بها أهالي غزة، لكن المشهد لا يُقرأ على نحو أن المقاومة امتلكت حق الوصاية على أهالي القطاع في الذهاب لخيار "طوفان الأقصى"، وفرضت الأمر الواقع بغض النظر عن النتائج.

إسرائيل لا تنتظر الذريعة للبطش بالفلسطيني. هدم البيوت في النقب لا علاقة له بصواريخ المقاومة في غزة. تدمير مخيم نور شمس لم يكن سببه خيار المقاومة بالهجوم على مستوطنات "غلاف غزة". الهجمات المتكررة على مخيم جنين لم تأت ردًا على خطف المستوطنين ونقلهم إلى غزة. التنكيل بأهالي القدس والضفة الغربية المحتلتين لا يرتبط بما يسوقه "العقلانيون" بأن المقاومة "استفردت" بالقرار الفلسطيني.

غزة لم تكن جزيرة معزولة، هناك مشهد عام معد مسبقًا مرتبط بتغيرات إقليمية ورسم جديد لخريطة المنطقة قبل طوفان الأقصى. أطرافه معروفه وعنوانه هو التطبيع

هناك اجتزاء وانتقائية في قراءة المشهد، ولا يتعلق الأمر بقصور في النظر بل بمواربة في تبني المواقف. غزة لم تكن جزيرة معزولة، هناك مشهد عام معد مسبقًا مرتبط بتغيرات إقليمية ورسم جديد لخريطة المنطقة قبل "طوفان الأقصى". أطرافه معروفه وكانت "صفقة القرن" هي الخيار الوحيد المطروح لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي.

هل لنا أن نسأل "العقلانيين" هنا عن دور دول التطبيع في ما يرسم لما يسمى بـ"اليوم التالي للحرب"؟ ما هو محلّ السلطة الفلسطينية من المقتلة الحاصلة في غزة؟ هل من المنطقي أن تكون في محل يأخذ نفس المسافة من الطرفين؟ هذا إذا تجاوزنا التماهي في خطاب بعض الناطقين باسمها ورموزها في "شيطنة" المقاومة يصل إلى درجة التماهي مع خطاب الاحتلال؟

 لماذا لا يتحدث "العقلانيون" عن ذلك؟ لماذا يقفزون عن حقيقة أن خيار أوسلو وتجربة السلطة الفلسطينية في حكم الضفة الغربية المحتلة التي قُزمت إلى أجهزة أمنية تلاحق المقاومين وتخنق أي صوت معارض، سقفها التنسيق الأمني، في حين تقف متفرجة أمام جرائم جيش الاحتلال وعربدة مستوطنيه؟ هذا طبعًا دون الحديث عن أن فساد مؤسساتها ورجالها كان مقدمة للاستفراد بغزة.

"العقلانيون" يتجاهلون كل ذلك، ويستسهلون رسم المشهد بالقول إن خيار "طوفان الأقصى" كان السبب في الوصول إلى الخيارات القاتلة المطروحة لغزة بعد الحرب: احتلال إسرائيلي، أو إعادة تدوير لتجربة روابط القرى العملية، أو حكم مدني مرتبط بأشخاص مناهضين للمقاومة وبإشراف الاحتلال, أو إعادة السلطة الفلسطينية أو سلطة مرتبطة برجال على علاقة بدول التطبيع. ويغيب عنهم أن المقاومة لا زالت تمتلك الكلمة في غزة، وخطابها في عز المقتلة لم يخرج عما يطالب به جميع الفلسطينيين، والذي يطالب به كل أحرار العالم في المدن الغربية، مرورًا بطلبة جامعاتها، وكل حر وصاحب ضمير وأخلاق في هذا العالم.

من جهة أخرى، إن تجاوزنا كل ذلك، وتوقفنا أمام ما يتم ترديده بأن الوضع المأساوي في غزة مرتبط بغياب النقد لتجربة المقاومة، مع تكرار الحديث عن الظروف والعوامل الموضوعية التي قفزت عنها المقاومة؛ فإنه لا بد من التساؤل: متى كانت الظروف والعوامل إلى جانب المقاومة الفلسطينية، ليس في غزة فقط بل في كل محطاتها داخل فلسطين المحتلة وخارجها؟

لا يقدم "العقلانيون" حلولًا، خارج دائرة توصيف المأساة التي يمر بها أهالي القطاع. بالمقابل يقفزون عن حقيقة صمود المقاومة أمام أعتى قوة عسكرية مدعومة بلا حدود من أقوى دول العالم مرتبط بحاضنتها الشعبية في غزة، التي تُرتكب بحقها المجازر وتجوع وتشرد وتهدم بيوتها. وهنا لنا أن نتساءل كذلك لماذا السعي دائمًا لمحاولة الفصل بين المقاومة ومعاناة حاضنتها الشعبية؟

إن أحسنا الظن، هناك قفز رهيب عن حقيقة أن إسرائيل دولة إرهاب، وحكوماتها المتعاقبة على مر التاريخ لم تنتظر الذرائع لارتكاب المجازر لتنفيذ مخططاتها، لكن المقاربات للأسف تؤخذ من زوايا ضيقة.

لهذا فإن النقد الذي يتجاوز قراءة المشهد كاملًا، ولا يستند على أرضية مشتركة لتعريفات ومبادئ متفق عليها بالحد الأدنى، سيذهب أدراج الرياح.

هول المأساة في غزة لن يعطي إسرائيل إمكانية فرض شروطها على الشعب الفلسطيني. تجارب التاريخ تخبرنا أن شعوبًا انتصرت في ظروف أقسى من المأساة الحالية، لأن المقاومة جدوى مستمرة لا تستند على موازين متغيرة، وهو مسار كل الثورات في العالم.

"العقلانيون" عليهم الانتظار كثيرًا.