08-يونيو-2023
مروة التميمي في وداع طفلها الشهيد محمد (الأناضول)

مروة التميمي في وداع طفلها الشهيد محمد (الأناضول)

فيلم "مملكة النمل" هو أحد الأفلام التي شاهدتها منذ مدة طويلة، وأكثر ما أذكره من أحداثه هو مشهد الأم الفلسطينية جليلة عندما يصلها خبر استشهاد طفلها سالم، فيأتي شكل تفاعلها مع الخبر بكلمات الاستنكار، وتقول وهي في أقصى حالات الوجع والأسى: "بعدو صغير عالشهادة".

تذكّرت مشهد الأمّ جليلة وأنا أتابع ما كتبته أمّ محمد التميمي لترثي طفلها الذي لم يُكمل 3 أعوام، والذي استشهدَ الاثنين الماضي متأثرًا بإصابته برصاصات غادرة أطلقتها قوات الاحتلال الإسرائيلي عليه، بينما كان في رفقة والده في السيارة في مدخل قرية النبي صالح الواقعة غرب رام الله.

بضعُ كلمات فقط وضعتها أمّ محمد (مروة التميمي) في منشور، وأرفقتها مع صورته، وقالت له فيها: "مبروك الشهادة يا ماما"، فكّرتُ وأنا أقرأ عبارتها بما تخفيه خلفَها من أشكال الكلام والتعابير، فكأنّ عبارتها له تحمل كلّ المعاني الاستنكارية في طياتها، كأنّها تقول له "بعدك صغير عالشهادة يا ماما"، و"يا ريت الرصاصة صابت قلبي ولا خدشتك يا ماما".

جرائم اغتيال الاحتلال للطفولة الفلسطينية تتكرّر بشكل يومي دون رقيب أو حسيب، يتمّ تصنيفها كجرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، دون أن يتمّ محاكمة المجرم ومحاسبت

كلّ هذه التعابير الضمنية اختزلها مقولة مروة المقتضبة والحارقة في وداع طفلها، وفي تعقيبها على حادثة اغتياله قالت بأنّ جريمة قتل طفلها هي جريمة مركّبة، لأنّ جنود الاحتلال أطلقوا النار على طفلها، ومنعوها في البداية من مرافقته إلى المستشفى الإسرائيلي الذي نُقل إليه قبل أن يستشهد، بحجة أنها لا تحمل تصريحًا يُخولها دخول أـراضي الداخل المحتلّ.

أضافت مروة ووضحّت بانّ ما يُعزيها هو أنّ حالها كحال أمهات 28 طِفل استشهدوا في فلسطين منذ بداية هذا العام، وقام الاحتلال الإسرائيلي بقتلهم وتصفيتهم بنفس الطريقة، والفكرة الموجعة هنا بأنّ ما يعزي الأمهات الفلسطينيات عند استشهاد أطفالهنّ إدراكُ كلّ واحدةٍ منهنّ بأنّها ليست الأولى والأخيرة في حلقة الفقد، وأنّ وجعها هو جزء لا يتجزّأ من وجع كلّي لأمهات غيرها فقدنَ أطفالهنّ بانتهاكات الاحتلال واستمرار جرائمه.

في الثمانينيات غنّت الطفلة اللبنانية ريمي بندلي أغنية "أعطونا الطفولة"، وفي فلسطين لا يُوجد طفولة تُعطى، هناك فقط طفولة تُقتل وتعتَقل وتُنتهكُ في أبسط حقوقها، هناك فقط طفولة يصرّ الاحتلال الإسرائيلي المجرم على اغتيالها ووأدها في كلّ وقتٍ وحين وبشتى الطرق والأساليب.

ما الذي يُمكن قوله عن الطفل محمد التميمي الذي استهدفه الاحتلال قبلَ أن يرى شيئًا من هذه الحياة، سوى أنّ طفولته قِتلت ووئِدت برصاصة، وما الذي يُمكن إخباره عن الطفل ريان سليمان البالغ من العمر 7 أعوام الذي توقّف قلبه –العالم الماضي- وهو يركض هربًا من جنود الاحتلال، بينما هو عائد من مدرسته، وحقيبته المدرسية على ظهره، سوى أنّ طفولته وما تنضوي عليها من أحلام وطموحات قُتِلتَ هي الأخرى، برصاصة مختلفة هذه المرة هي رصاصة الخوف.

جرائم اغتيال الاحتلال للطفولة الفلسطينية تتكرّر بشكل يومي دون رقيب أو حسيب، يتمّ تصنيفها كجرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، دون أن يتمّ محاكمة المجرم ومحاسبته، فمنذ استشهاد محمد الدرة –وحتى قبل ذلك بكثير- ونحنُ كفلسطينيين نشاهد أطفالنا يُقتلون أمام كاميرات العالم، وتنطلق رصاصات الغدر لتغتال براءتهم وتقتلها، دون أن يكون هناك أي تحرّك حقيقي لمحاسبة مجرمي الاحتلال ومقاضاتهم.

قد يحتاج العالم إلى كتاب مثل "معاناة الطفل الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي" حتى يتعرّف على مختلف أشكال انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي بحقّ أطفالنا، لكنّ بالنسبة لنا كفلسطينيين، فستبقى صور أطفالنا الشهداء تمرّ في رؤوسنا، وسنبقى نتذكّر قصصهم وتفاصيلهم، ونُعيد ترديد أحلامهم وطموحاتهم، وسنلعن الاحتلال في كلّ مرة نتخيّل فيها حياتهم التي لم يعيشوها، وتوقّفت عند لحظة واحدة، جاءت لتوثّق طفولتهم المغدورة.