لم يكن مهند إيهاب، ابن التسعة عشر ربيعًا، يعلم أن أجله اقترب، ولم يرتِّب لذلك.. لكن غول السرطان نهش لحمه، وامتصّ عظامه، وخالط دمه حتى سقط.. قتيلًا.
ألقي القبض على "مهند"، الشهير بـ"نحلة" وكان متهمًا بـ"تصوير المظاهرات"، المرة الأولى كانت في كانون الأول/ديسمبر 2013، ولم يكن سنه يتجاوز الـ 17 عامًا، تم الحكم عليه بخمس سنوات، تم تخفيفها إلى ثلاثة أشهر في الاستئناف.
أثارت وفاة مهند إيهاب بالسرطان جدلًا واسعًا في مصر، خاصة بعد اتهام الكثيرين للسلطات المصرية بالتسبب في وفاته لإهمالها علاجه أثناء وجوده بالسجن
اقرأ/ي أيضًا: سخرية في مصر من "فقر" الملياردير حسين سالم
لم تكن نهاية مطاف مهند في السجون المصرية، ففي كانون الثاني/يناير 2015 تم اعتقاله مرة أخرى وبنفس التهمة، هذه المرة ذهب إلى سجن برج العرب..وهذه المرة سيواجه عدوًا جديدًا..اللوكيميا "سرطان الدم".
ما جرى رواه "مهند" على صفحته الخاصة: "بدأت أرجع وأنزل دم من مناخيري ومقدرش أتكلم ومش عارف أمسك حاجة، ومش عارف أدخل الحمام لوحدي، رحت مستشفى السجن قالوا لي عندك أنيميا، وبعد كده تيفويد، ثم قيل لي (فيروس في الكبد)، ورحت مستشفى الحميات، ففشلوا في تشخيص المرض".
وأضاف: "والدي استطاع أخذ التحاليل، وأجرى فحوصات عليها في معمل خاص، قالوا له (سرطان دم)، لكن بعد كده فضلت لحد ما اتنقلت المستشفى الميري، ووزني نزل 25 كيلو في شهر".
اتهم إيهاب حسن، والد "مهند"، إدارة سجن برج العرب بالتعنّت في علاجه، ما أدّى إلى تدهور حالته الصحية قبل الإفراج عنه في 2015 ليسافر للعلاج.. لكن الحالة كانت متأخرة بأكثر ممّا ينبغي، فكانت جلسات الكيماوي آخر علاج ممكن.. قالوا له: فلتتمسك بالأمل.. لكن الألم كان أزيد، وأبقى، وأشدّ بغتة.
لم يقدّم والده نعيًا على "فيسبوك"، اكتفى بفيديو تشييع جنازة الصغير، الذي خرج من باب الدنيا تاركًا وراءه أحلامه وذكرياته وكاميرا صغيرة كان يسجّل عليها المظاهرات، لكن رسالته المؤثِّرة -قبل وفاة "مهند" بأيام- لا تزال على صفحته.. قال: "أي بني، أجلس الآن أمام فراشك وأتذكر كم كنت صغيرًا في سنك كبيرًا في أفعالك، كنت دائمًا تتألم ولا تظهر إلا الرضا، أتذكر حين تم القبض عليك للمرة الثانية واختفيت أربعة أيام، وعندما رأيناك لأول مرة في النيابة وكان الإنهاك باديًا عليك".
اقرأ/ي أيضًا: 5 تصريحات مثيرة للجدل للسيسي في "غيط العنب"
ويتذكَّر: "قلت لي: لا أريد من أمي أن تقترب مني لأن جسدي يؤلمني، ولا أريدها أن تتألَّم. حين كنّا في معهد السرطان، وطلبنا أنا وأمك مترجمًا حتى نستوعب ما سيقوله الطبيب فرفضت بشدة، وقلت إنك ستتولَّى الترجمة وغضبنا، وتدخلت ممرِّضة لإقناعك.
عادت بعد نصف ساعة وانفجرت في البكاء: (لأول مرة أرى هذا المشهد.. لا يريد مترجمًا خوفًا عليكما من الأخبار السيئة، ويقول: سأترجم لهم ما لا يؤلمهم، وأحتفظ لنفسي بالباقي.. لأول مرة، الابن الصغير يحمي والديه)".
بعد جلسة "الكيماوي"، دخل الطبيب وسأله: كيف حالك الآن؟.. فردّ: "الحمد لله".. فقال له: "أنت تكذب، أنا طبيبك وأعرف أنك تحترق من الداخل".. فابتسم "مهند" ابتسامته الأخيرة.
بالنسبة إلى جميع من كانوا حول "مهند"، الفصل المؤلم في القصة حين استسلم لسرطان الدم أكثر من استسلامه لأي شيء، أكثر من استسلامه للسجن، الذي خرج منه وعاد إليه بإرادته، حاملًا على كاهله ثِقل حبه للحياة، ونشر صورًا له "قبل وبعد" الإصابة بالمرض.
وفي 14 آب/أغسطس الماضي، وضع صورة لكوب ملأ به شعره المتساقط نتيجة العلاج الكيماوي، وعلق عليها: "إنه شعري، وذلك ليس اختياري.. آمل أن أقصّه المرة القادمة.. السرطان مؤلم".
أصبح "سرطان الدم" رفيقًا لـ"مهند"، واستمرّ تساقط شعره بأثر العلاج الكيماوي، حتى سافر إلى "نيويورك" لاستكمال علاجه، وهناك، فارق الحياة.
تصدر هاشتاج #مهند_مات موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، ونعته العشرات من صفحات التواصل بجملة "مات البطل، وماتت معه الضحكة والأمل والبسمة الطيبة"، وحمّلت مصلحة السجون مسؤولية انتقال سرطان الدم إلى "مهند"، مطالبة بتحسين الأوضاع العلاجية داخل الزنازين، ووقف حالة الإهمال في التعامل مع النزلاء، خاصةً المرضى، الذين يتم المقامرة بحياتهم في السجون.
اقرأ/ي أيضًا: