23-مايو-2024
الدولة الفلسطينية وثبات المواقف

(Getty) الاعتراف الأخير يتجاوز الموقف الأميركي والأوروبي السائد عن الدولة الفلسطينية

الاعتراف الإسباني والأيرلندي والنرويجي بدولة فلسطينية يعتبر تحولًا سياسيًا في مواقف أوروبية راسخة، بعد سنوات من رهن الولايات المتحدة والدول الغربية هذا الاعتراف بمسار تفاوضي واتفاق مع إسرائيل. ورغم أن هذا الموقف لم يفترق كثيرًا عن مواقف هذه الدول سابقًا، خاصةً في عهد حكومة اليسار، إلّا أنّ أهميته تأتي تحديدًا من إدراك لضرورة البحث عن "حل"، في ظل حرب إسرائيل الدموية على غزة.

ومع ذلك، فإن هذه الخطوة حتى في سياق منطقها، أي حل الدولتين وإعادة طرح مسار التفاوض مع إسرائيل، جاءت متأخرة، وذلك باعتراف وزير الخارجية النرويجي الذي قال في تصريحات صحفية "كان ممكنًا تفادي المأساة والقتل الحالي بغزة لو اعتُرف بفلسطين بعد اتفاق أوسلو". ناهيك عن وصول منطق هذا الحل إلى نهايته.

وأجمعت كافة خطابات الاعتراف على أن الهدف من الاعتراف هو إعادة حل الدولتين مرة أخرى إلى الواجهة، وهو محاولة استدراك على مشروع استثمرت فيها أوروبا كثيرًا، ولكنه مع مرور السنوات والسياسات الإسرائيلية تحول إلى "وهم". وإذا كان هذا المسار المبني على إعلان المبادئ واتفاقية أوسلو، يحمل منذ يومه الأول بذور فشله في تجاوزه للعدالة والحقوق ضمن تصوره للحل، فإنه اليوم وحتى بالمعنى التقني يفشل نتيجة الاستيطان وحكومة إسرائيل "الأكثر تطرفًا"، والذي كان وصفًا ملاصقًا لها منذ يومها الأول في وسائل الإعلام الغربية، وحتى من قبل الرئيس الأميركي جو بايدن، واختفى منذ بداية العدوان على غزة.

لعل الجانب الأهم في الاعتراف بالدولة الفلسطينية، التجاوب مع موقف شعبي، يطالب بخطوات أكثر جذرية

لكن التحول المفروغ منه هو في لغة الخطاب الأوروبي، وبالأخص من قبل رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، الذي قال: "نتنياهو ليس لديه خطة سلام لفلسطين"، مضيفًا أنه يسبب الكثير من الألم والدمار والمرارة في غزة وبقية فلسطين لدرجة أن حل الدولتين أصبح الآن في خطر شديد.

وتابع: "لا يزال رئيس الوزراء نتنياهو يغض الطرف ويقصف المستشفيات والمدارس والمنازل. لا يزال يستخدم الجوع والبرد والإرهاب لمعاقبة أكثر من مليون صبي وفتاة بريئين، وقد وصلت الأمور إلى حد أن المدعين العامين في المحكمة الجنائية الدولية طلبوا هذا الأسبوع اعتقاله بتهمة ارتكاب جرائم حرب. إن تلك الدول التي تدافع عن حقوق الإنسان والقانون الدولي القائم على القواعد ملزمة بالتصرف في أوكرانيا وفلسطين دون معايير مزدوجة".

والمهم أيضًا، أن هذه الخطوة تعبر عن مزاج شعبي، في البلدان التي اعترفت بدولة فلسطين، ومطالب الحراكات الشعبية أكثر من مجرد الاعتراف بدولة فلسطينية، بل تعبر عن رفضها للعلاقات الاقتصادية مع إسرائيل وتطالب بوقف إطلاق النار في غزة، وهي بهذا المعنى خطوة قد تكون مقدمة لخطوات أوسع تسعى للاستجابة لمزاج شعبي داعم للقضية الفلسطينية، على المدى الطويل. كما يمكن الإشارة إلى أن إسرائيل بدأت تواجه "عزلة" نتيجة عدوانها على غزة، عبر عنها صراحة مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان.

ورغم تأكيد كل من دبلن ومدريد وأوسلو، على أن الحل سيخدم إسرائيل، إلى أنه بالطبع يتجاوز موقف إسرائيل بكثير، إذ أقر الكنيست الإسرائيلي في شهر شباط/فبراير الماضي وبأغلبية 99 عضوًا، قرارًا يرفض الاعتراف بفلسطين، وحينها قال نتنياهو: "إسرائيل ترفض بشكل قاطع الإملاءات الدولية بشأن التسوية الدائمة مع الفلسطينيين. والتسوية لن تكون إلّا من خلال المفاوضات المباشرة بين الطرفين، دون شروط مسبقة"، بالطبع سوى الشروط التي يضعها نتنياهو.

أمّا فاعلية هذا القرار الحقة فهي تكون بفرض عقوبات فعلية على إسرائيل، والمساهمة والعمل على وقف إطلاق النار في حرب الإبادة الجماعية المفروضة على غزة، وهو أمر الساعة للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، أكثر من الاعتراف بالدولة، وهو اعتراف لم يكن لولا تضحياتهم أصلًا، التي أعادت حضور القضية الفلسطينية في العالم.

وهذا الاعتراف، إشارة إلى قيادة السلطة الفلسطينية، التي لم تحصل على هكذا اعتراف، إلّا نتيجة صمود ومقاومة وتضحية فلسطينية، وموقف شعبي داعم داخل الدول التي أعلنت اعترافها، ولم تكن نتيجة سنوات من نشاط وزارة الخارجية في رام الله، وهي الوزارة التي لم تمتلك "جرأة" على إصدار بيان عن قرار مدعي عام محكمة الجنايات الدولية الذي طلب مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير أمنه يوآف غالانت.

بالتزامن مع مؤتمر رؤساء الوزراء في إسبانيا وأيرلندا والنرويج، كان وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت، يرافق رئيس المجلس الاستيطاني في شمال الضفة الغربية يوسي داغان، الذي كان يحمل سلاحه، من أجل الإعلان عن عكس ما عرف باسم "خطة فك الارتباط" في شمال الضفة الغربية، التي انتهى بموجبها الاستيطان في محيط مدينة جنين عام 2005.

وفي خبر آخر، صادق الكنيست الإسرائيلي على قانون بالقراءة التمهيدية على ضم مستوطنات جنوب الخليل لإسرائيل. كل ما سبق، ترافق مع خبر عن تحذيرات من "كارثة اقتصادية" في الضفة الغربية المحتلة إذا لم تجدد إسرائيل الإعفاء الذي تحتاجه البنوك الإسرائيلية للحفاظ على علاقاتها مع نظيراتها الفلسطينية. 

وبينما صدرت عشرات بيانات الترحيب من السلطة الفلسطينية بالإعلان الإسباني والنرويجي والأيرلندي، لعل هذا الحدث فرصة للسلطة لتتذكر بأن هذا لم يحصل إلّا بالصمود والنضال. وأن الاستيطان يواصل قضم ما تبقى من الضفة الغربية، وتواصل إسرائيل قتل أهالي غزة وتدمير القطاع، وهذا يحتاج إلى أكثر من بيان ترحيب في مواقف هامة فعلًا.

وحول السلطة ودورها، فإن المفارقة جاءت في تصريح وزير الخارجية النرويجي، في رده على تصريح وزير المالية الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش، بـ"معاقبة السلطة الفلسطينية ردًا على القرار النرويجي الإسباني الأيرلندي"، إذ قال الوزير النرويجي إسبن بارث إيدي: "ذلك سيكون عقابًا لإسرائيل نفسها. لدي سبب قوي للاعتقاد بأن هناك الكثير من القلق في الأجهزة الأمنية في إسرائيل بشأن الانهيار المحتمل للسلطة الفلسطينية. كما لو أن إسرائيل ليس لديها ما يكفي من المشاكل، فإن هذا سيؤدي إلى المزيد من المشاكل في الضفة الغربية، ووضع حد للتعاون الأمني ​​الناجح الذي لا يزال مستمرًا". 

وعلى سيرة الاعتراف القادم من أوسلو، في مرة قال الصحفي عارف حجاوي: "أوسلو: مدينة تغطيها الثلوج معظم السنة، ونكتوي بنارها منذ عشرين سنة"، والآن صارت 31 سنة. وفي كل حال، فإن الواقع الحقيقي، بعد النظر إلى مناطق الدولة المفترضة والمعترف بها، يقودنا إلى أن نهاية الاعتراف لن تكون أكثر من لوحة على مدخل سفارة، في ظل تحولات العالم وثبات قيادة السلطة الفلسطينية على موقفها ودورها.