26-نوفمبر-2020

سلاف فواخرجي

جاءت الفنانة السورية سلاف فواخرجي إلى برنامج "جعفر توك" مبتهجة فرحة، فلقد كان في ظنها أنها ستبهر السوريين بتقديم نفسها لهم كمواطنة صالحة صاحبة وجهة نظر، متيمة في حب الوطن والقائد بغض النظر عما يقال عن كونه مجرمَ حربٍ، هذا إضافة إلى كونها فنانة تقدمية من فئة المتنورين الكبار في زمن ظلامي يعج بقطعان السلفيين، التي تعجز غرائزهم البدائية عن التمييز بين الشبقي في قبلة تعود لأفلام الأربعينات، وبين الصوفي والعذري في القبلة المرحة التي أدتها مع زميلها الفنان مهيار خضور في مسلسل "شارع شيكاغو".

لم يكن لسلاف فواخرجي المنضوية تحت عباءة نظام، لا حس فيه ولا روح، أن تتواضع لتعترف بألم الآخرين المعارضين

إلا أنها لم تجد ما يسر خاطرها في الحالتين، إذ بدل أن يتم الاحتفاء بها كنجمة متميزة ذات حضور إستثنائي في مجال الفن والفنانين، سارت الأمورعلى غير ما تحب وترغب، إذ وجدت نفسها في موقعها الحقيقي كعضو دعوي فعال في مؤسسة الدعاية الأسدية، التي لا هاجس لديها سوى العمل على تفسير وشرح وإيصال أفكار زعيمها الخالد، في الحرب الكونية، والإبادة الجماعية وإستراتيجيات البقاء والصمود والتخفي في عالم متغير.

اقرأ/ي أيضًا: وسيم الأسد.. اعتباطية السلطة الغاشمة

على السطح حاولت فواخرجي أن تظهر بمظهر الفنانة الإنسان المتعالية عن الأحقاد الشخصية والأهلية، فما أن كان مقدم البرنامج يهم بتذكيرها بمقدار الألم، الذي اعتصر قلوب معارضي الأسد ذات يوم، حتى كانت تنبري للدفاع عن ذلك الألم و تعمل على اجتيافه أي إدخاله في جهازها الشعوري كما لو كان ألمًا شخصيًا أصاب ذاتها الكبرى، أو أحدًا من سكان بيتها الكبير: سوريا.

لم يكن لسلاف المنضوية تحت عباءة نظام، لا حس فيه ولا روح، أن تتواضع لتعترف بألم الآخرين المعارضين، لو لم تكن ترغب بتسويق ألمها هي، ألم أنصارها، في جعله على مرتبة وجودية واحدة من ألم معارضيها، الأمر الذي يجعل منه مطرحًا للتضامن والتعاطف الإنسانيين على مستوى كوني، كما مطرحًا لتحميله إلى الأشخاص الذين تسبّبوا به، ألا وهم أبناء المدن السورية المنكوبة. من أجل ذلك كان علينا أن نتحمل تنظيرها عن الحرب، عن حرب الإخوة الأعداء وهم يجزون رقاب بعضهم البعض، في قصدية واضحة للخلاص من صداع ضميرها الشخصي، الذي كان يلح عليها بالنظر للأمر من زواية المجرمين الأسدين والضحايا المدنيين.

في العمق لم تكن المعركة التي خاضتها سلاف من أجل الألم، انتزاع اعتراف الآخرين بحقها بالتضامن الإنساني بريئًا، فهي لم تكن تصارع على وضع ألمها مقابل ألم الآخرين، إلا بهدف سلطوي واحد، هو نفي أحقيتهم بهذا الألم ما دام هذا الألم الذي ألم بهم، لم يكن سوى نتيجة مستحقة على أعمال الاحتجاج الفوضوية التي قاموا بها ضد السلطات الشرعية.

في المرة التي سألها فيها جعفر عن شعورها إزاء البراميل الأسدية العمياء التي كانت تلقى على رؤوس الناس، سارعت إلى تذكيره برشقات عشرات قذائف الهاون التي كانت تلقى على رؤوس الناس في شوارع دمشق، تلك التي كانت تنطلق من مناطق المعارضة في الغوطة الشرقية. أما في الوقت الذي كان يستصرخ ضميرها فيما يتعلق بوحشية النظام في غرف الاحتجاز، التي كان يمارس فيها فن إمساك الحياة عبر الألم أو ما يدعى بتقنية التعذيب حتى الموت، كانت تطلع عليه بحكايات الرجال الطيبين، الذين كان يتم سلقهم بقدور من ماء كالمُهل، خالطة عن عمد بين عنف الجماعات الأصولية المتوحشة وعنف المعارضين المدنيين، الذين أجبروا للدفاع عن أنفسهم ضد آلة الموت الأسدية. وما كل هذا التذاكي سوى الرغبة العميقة من التهرب من وجع الحقائق التي تفيد بأن العنف الأسدي هو الأساس في كل عنف، وأن العنف المعارض لم يكن في حقيقته أكثر من وسيلة للدفاع عن النفس، عن نظام قرر الأخذ بحياة كل شخص تجرأ بالاحتجاج على الذات الإلهية لولد آل الأسد.

الحرب الأهلية هي الشماعة التي ظلت السيدة فواخرجي تعلق عليها كل مساوئ نظام الأسد

الحرب الأهلية تحديدًا، بما فيها من شحنة العنف الوحشية غير القابلة للفهم والتفسير في نفوس المنخرطين فيها، هي الشماعة التي ظلت السيدة فواخرجي تعلق عليها كل مساوئ النظام. في حين ألقى المقدم على مسامعها عدد الأبرياء الذين سقطوا على يد قوات نظامها، شحذت همتها لتتمسك بعبثية الحرب الأهلية "إنها الحرب"، كما لو كانت الحرب في قاموسها القيمي مبررًا كافيًا لتبرير كل فعل غير أخلاقي، بما فيها المذابح الجماعية المرتكبة عن سابق إصرار وتصميم. وعندما تلا عليها عدد النازحين واللاجئين الذين قذف بهم إلى مجاهل الخراب، عادت لتلوذ بعبثية الحرب من جديد "إنها الحرب"، كما لو أن سياسة التغيير الديمغرافي التي أتبعها النظام، كانت عملًا عفويًا لا علاقة له بطبيعته الإنتقامية، التي لا يمكن لها تتسامح مطلقا مع أي شخص أوبيئة شعبية تعلن عن رغبتها بالخلاص من كابوس حكمه.

اقرأ/ي أيضًا: عن شكران مرتجى.. العمى في البصيرة والضمير

لا يمكن للمرء فهم تمسك فواخرجي بمقولة الحرب الأهلية إلا لاصرارها على تحويل حراك السوريين نحو الخلاص من الطغيان الأسدي، وإقامة نظام ديمقراطي، إلى نوع من العدم الكلي، وهو عدم لا يمكن له أن يستقيم ويفهم إلا بقصد القيام بفعل واعٍ لتحوير حراك الناس الديمقراطي عبررده إلى ردة سلفية أو نكوص نحو الماضي، الأمر الذي يسهل على السلطات المتوحشة قيامها بنزع الطابع التقدمي الثوري الذي يتصف به، ولصقه بتهمة التمرد الشرير، الذي لا هم له ولاهدف سوى إستبدال نظام مستبد بآخر (نظام الأسد) أسوأ منه استبدادًا ( نظام سلفي). لم تسهم تلك الترسيمة السلطوية التي أتت على ذكرها فواخرجي بإيجاد المبرر القانوني والأخلاقي لذبح الناس في البيوت والشوراع وحسب، وإنما أسهمت على نحو ما بتهدئة وطمأنة قلق أناس مثلها، أؤلئك الذين يفضلون العيش في نظام يعرفونه ويعرفهم، يتقاسمون فيه مع أسيادهم احتقارالأخلاق اليومية ذات البعد الديني، التي يحياها الناس في حياتهم العادية، دون أن يخطر على بالهم الإحساس بحجم المآسي التي يتسببون لها بالناس.

في المقابلة، حاولت سلاف أن تظهر لنا نفسها بمظهر الشخص الطيبوب ابن الشارع، الذي لديه كل المساحة الأخلاقية للتعاطف مع ألم الحلزون في الشارع، الأمر الذي كانت تصر على إيصاله لنا عبر تكرارها الحديث عن منطق العائلة الواحدة التي تجمع السوريين "كلنا سوريين". فيا له من منطق احتيالي ذلك، فعن أي عائلة تتحدث هذه السيدة؟ عن العائلة السورية الخانعة الذليلة التي تصبّح وتمسّي على شكر بشار الأسد على نعمته العظمى في تأمين ربطة خبز لأفواه عائلتها الجائعة؟ أم تلك العائلة السورية المسحوقة التي تضطر لتمويل نهب موظفي الأسد من حر مالها؟

في "جعفر توك"، بدت فواخرجي أبعد ما تكون عن الممثلة التي لديها شيء مميز لتقوله عن فنها ومشاريعها المستقبلية، فلقد وضعها البرنامج في موضع المدافع عن مجرم حرب، وبدل أن تبادر إلى رفض القيام بهذا الدور المبتذل، انبرت لتقمصه على أحسن وجه. لم يكن هناك ما هو جميل وبهي في حضورالسيدة، على الرغم من طلتها البهية، وكيف لها أن تبدو كذلك وهي لم تترك فعلًا قبيحًا إلا وارتكبته، من دفاعها عن ارتدائها للباس جيشها العقائدي الذي لا يمكن تمييز سلوكه الانكشاري عن سلوك أي جيش احتلالي آخر. فما هذا الجيش الذي لا يأتي على مال إلا وعفشه، وعلى بشر آمنين إلا وأبادهم عن بكرة أبيهم؟

حاولت سلاف فواخرجي أن تتخذ من دور المواطنة الطيوبة صاحبة الرأي قناعًا لتمرير أفكارها، بدل أن تدين المذبحة الوطنية الكبرى التي اقترفها الأسد

في "جعفر توك"، حاولت السيدة أن تتخذ من دور المواطنة الطيوبة صاحبة الرأي قناعًا لتمرير أفكارها، فبدل أن تدين المذبحة الوطنية الكبرى التي اقترفها الأسد بحق السوريين، عمدت إلى رفع الجريمة إلى مصاف وجهة النظر، ضاربة بعرض الحائط بكل تلك التقارير المحايدة، التي يؤكد وقوعها على نحو لا فكاك منه. وبدل أن تدين التدمير الشامل الذي قام به زعيمها المفدى بشار الأسد، عمدت إلى إدانة الناس الذي طالبوا بحريتهم مخطابة إياهم بلغة التشفي "ما الذي جنيتموه من احتجاجاتكم هذه غير خراب البلد؟"

اقرأ/ي أيضًا: زهير رمضان.. ظل شاحب لسلطة متعالية

كثيرة هي المرات التي استعرضت فيها سلاف عواطفها الإنسانية النبيلة من أمومة وحب وتضحية، ولكن سرعان ما كان كل ذلك يتبخر، عندما كانت تصل إلى إنكار حقيقة القضاء على حيوات آلاف الأمهات والأبناء والأحفاد الذين أتت عليهم آلة الطغيان الأسدية، وكيف لها أن تبالي بآلام كل هذا الرهط الغير مقدس في عرفها، وقد كانوا على نحو ما سببا في تسميم عيشتها التي كانت وفق عظمة لسانها" أقرب إلى المثالية إلا قليلا".

اقرأ/ي أيضًا:

سامر المصري يتوسّل وطنًا لا رجاء فيه