16-يناير-2023
gettyimages

فصل الشتاء الذي اعتبر أقل برودة من المعتاد ساهم بالتقليل من استهلاك الغاز في أوروبا (Getty)

اتجهت كل التوقعات، إلى أن أوروبا ستعاني من شتاء بارد بشكلٍ كبير، وقد يكون الأصعب منذ سنوات، نتيجة عقوباتها على واردات الطاقة الروسية إلى القارة، بعد غزو روسيا لأوكرانيا. وترافق مع ذلك تحركات أوروبية واسعة من أجل تقليل استخدام الغاز والبحث عن مصادر أخرى، وسط تحذيرات أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في أيلول/ سبتمبر الماضي، من أن "الأوروبيين سوف يتجمدون، إذا التزم الغرب بعقوبات الطاقة التي فرضها ضد روسيا". وإجمالًا  ارتفعت أسعار الغاز في شمال أوروبا إلى 200 يورو لكل ميغاواط / ساعة، أي أعلى بنحو 10 أضعاف مما كانت عليه في عام 2021.

اتجهت كل التوقعات، إلى أن أوروبا ستعاني من شتاء بارد بشكلٍ كبير، وقد يكون الأصعب منذ سنوات، نتيجة عقوباتها على واردات الطاقة الروسية

أوروبيًا، ولتجاوز ارتفاع الأسعار، تم وضع خطط لخفض الطلب على الغاز، وضمان انتقال الإمدادات عبر الحدود إلى البلدان التي تعاني من أسوأ حالات نقص، في وقت ظهر فيه الحديث عن احتمال انقطاع التيار الكهربائي بشكل منتظم في الاتحاد الأوروبي. وبدت استراتيجية بوتين، وتصوره عن إمكانية إبعاد أوروبا عن أوكرانيا، ممكنة التحقق.

مع بداية العام الجديد، ظهر أن الصورة جاءت أفضل من المتوقع وأكثر إيجابية أوروبيًا، فيما تحولت استراتيجية بوتين ومغامراته الحربية، المستندة على الثروة الهائلة من الغاز والنفط الروسي، وكأنها استراتيجية تهزم نفسها بنفسها.

فقد انهارت أسعار الغاز إلى 65 يورو لكل ميغاواط / ساعة، ورغم أنها ما تزال مرتفعة مقارنة في الأرقام القديمة، إلّا أنه أسعار يمكن التحكم بها، كما أنها أقل بكثير مقارنة مع الارتفاع المفاجئ الذي شهده العام 2022، وتحديدًا شهر آب/ أغسطس.

getty

ويعود انخفاض الأسعار الغاز واستقرارها إلى عامل الطقس الشتوي المعتدل بشكل ملحوظ في أوروبا، بالإضافة نجاح الدول الأوروبية في التحول من إمدادات الغاز عن طريق خط الأنابيب الروسي، إلى الغاز الطبيعي المسال المحمول على متن السفن من موردين أكثر صدقًا، بحسب صحيفة "بوليتيكو" الأمريكية.

وبتكلفة أكبر، قامت الدول الأوروبية بتجميع الإمدادات العالمية من الغاز الطبيعي المسال في النصف الثاني من عام 2022، مما أدى إلى زيادة الواردات من 83 مليار متر مكعب في العام 2021، إلى 141 مليار متر مكعب في العام 2022، وفقًا لمعهد أكسفورد لدراسات الطاقة.

ويعوض ذلك حوالي ثلاثة أرباع الـ 80 مليار متر مكعب التي لم تعد أوروبا تتلقاها من خطوط الأنابيب الروسية، حيث بدأت البنية التحتية الجديدة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال في الظهور في جميع أنحاء أوروبا، بما في ذلك ألمانيا، حيث سيتم تشغيل ستة محطات عائمة بحلول نهاية هذا العام. والكثير من الغاز الطبيعي المسال الذي وصل معظمه من الولايات المتحدة، أصبح موجودًا في أوروبا، ووصل إلى شبكة مرافق التخزين تحت الأرض، لتصل نسبة توافر الغاز في مرافق التخزين إلى 82%.

ومع هذه الظروف، بدأت موسكو تشعر بآثار تدابير الطاقة المضادة التي اتخذتها الدول الأوروبية، فقد قدرت إحدى التحليلات التي أجراها مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف، أن حظر الاتحاد الأوروبي على واردات النفط الروسي الخام، وتحديد سعر البرميل الروسي إلى 60 دولارًا، يكلفان روسيا 160 مليون يورو يوميًا.

getty

وعلى الرغم من العقوبات والتخفيض في الإمدادات، فقد حققت موسكو 155 مليار يورو من صادرات النفط والغاز في العام 2022، بزيادة قدرها 30% عن العام السابق، ولكن مع انخفاض أسعار النفط والغاز العالمية في العام 2023، تشير تقديرات الكرملين نفسه إلى أن هذه الإيرادات ستنخفض بنسبة 23%، التي تم تحديدها في كانون الأول/ ديسمبر في ميزانيته. ويعتقد الخبراء أن هذه التقديرات إيجابية أكثر مما يمكن أن يحصل واقعيًا. وقالت المحللة المستقلة والمسؤولة السابقة في البنك المركزي في موسكو ألكسندرا بروكوبينكو، إن تقديراتها الخاصة  تشير إلى أن هذه الإيرادات ستنخفض بنحو الثلث، وأضافت بروكوبينكو، أنه من "الواضح أن هذا العام سيكون صعبًا للغاية، بالنسبة للميزانية الروسية، التي فقدت سوقها المتميز "الاتحاد الأوروبي" على الأغلب، والذي كانت تورد له النفط والغاز".

وشكلت صادرات الغاز الطبيعي ما بين 10 % و 15 % من الإيرادات الحكومية العام الماضي، لكنها تراجعت بشكلٍ حاد، بعد أن سارع الاتحاد الأوروبي في تنويع إمداداته، بينما خفض الكرملين التدفقات نحو أوروبا، بعد العطل الذي أصاب خط أنابيب نورد ستريم تحت البحر بسبب الهجوم عليه.

ونتيجة لذلك، أعلنت شركة "غازبروم" الروسية، المملوكة للحكومة أن صادرات الغاز الطبيعي تراجعت بنسبة 46% العام الماضي. كما تحدث وزير المالية أنطون سيلوانوف، إن عجز الميزانية العام الماضي بلغ 2,3 % من الناتج المحلي الإجمالي، حيث كان لدى روسيا فائض، قبل غزوها لأوكرانيا.

هل انتصرت أوروبا في حرب الطاقة؟

يشير أستاذ السياسة الاقتصادية في نيو كوليدج بأكسفورد ومستشار الطاقة السابق للمفوضية الأوروبية ديتر هيلم، إلى أن  كلمة "انتصرت" جريئة للغاية، حيث قال "ما زلنا في أوائل الشتاء، وهناك الكثير من الأشياء التي يمكن أن تسوء"، وأردف "لكن أوروبا كان أداؤها أفضل بكثير، مما توقعه معظم المعلقين".

يوافقه في ذلك دبلوماسي من الاتحاد الأوروبي، قائلاً: "في الوقت الحالي، تبدو الأمور على ما يرام، لم يكن لدى الروس سوى سلاح واحد في حرب الطاقة هو الغاز، إنه سلاح قوي له تأثير قوي قصير المدى، واستخدموه بالفعل"، وتابع الدبلوماسي الأوروبي: "مصادر الاتحاد الأوروبي من الطاقة كانت أكثر تنوعًا، بما في ذلك تعزيز مصادر الطاقة المتجددة، والحصول على الإمدادات من أماكن أخرى، واتخاذ خطوات لاستخدام طاقة أقل".

لكن المنافسة لم تنته بعد، ومنذ أشهر حذر المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية فاتح بيرول، من أن الشتاء المقبل قد يكون أكثر خطورة من هذا الشتاء، مع وجود سوق عالمي للغاز الطبيعي المسال ضيق وإمكانية عودة الصين إلى الظهور بعد التخلي عن سياسة "صفر- كوفيد"، مما يرفع الطلب والتنافس على إمدادات الطاقة.

getty

وبسبب المخزون الثابت للطاقة، ظل الإنتاج الصناعي الأوروبي  ثابتًا بشكل معقول، لكن القطاعات التي تستهلك الطاقة بشكل كثيف، تعرضت لضربة شديدة بشكل خاص، حيث انخفض الإنتاج بنسبة 13 % تقريبًا وفقًا لـ ING.

كما أن الحكومات الاوروبية  ستخصص أيضًا مدفوعات ضخمة لدعم فاتورة الطاقة للمستهلكين والشركات، بإجمالي 705 مليار يورو في جميع أنحاء أوروبا، وفقًا لمركز أبحاث "Bruegel"، وستؤثر هذه المبالغ الضخمة على الميزانيات الوطنية لسنوات قادمة.

ولكن فيما يتعلق بالإجراء الرئيسي، وهو الدعم السياسي والعسكري لأوكرانيا، فقد فشلت روسيا بالتأكيد في محاولتها لكسر التصميم الأوروبي، وأظهر استطلاع "Eurobarometer" الذي أجري في تشرين أول/أكتوبر، وتشرين ثاني/ نوفمبر، وتم إصداره هذا الأسبوع، بأن 73% من مواطني الاتحاد الأوروبي أيدوا دعم دولهم لكييف، وللعقوبات المفروضة على روسيا.

قاد اليمين المتطرف في ألمانيا احتجاجات ضد العقوبات المفروضة على روسيا، وكثيرًا ما تراجعت  الحكومة المجرية عن موقف الاتحاد الأوروبي بشأن أوكرانيا

بالمقابل، هناك بعض الدلائل على أن الآراء قد تغيرت خلال فصل الشتاء، فقد قاد اليمين المتطرف في ألمانيا احتجاجات ضد العقوبات المفروضة على روسيا، وكثيرًا ما تراجعت  الحكومة المجرية عن موقف الاتحاد الأوروبي بشأن أوكرانيا، لكن هذه المواقف ظلت حتى الآن محصورة لدى أقلية في أوروبا، ويقول هيلم "هذا سياسي وكذلك اقتصادي، وأعتقد أن الأوروبيين أظهروا درجةً ملحوظةً من التضامن"، وأضاف "هذا مشروع أوروبي، يحتاج إلى استراتيجيات أوروبية، وقد ظهرت قوة الاتحاد الأوروبي بشكلٍ كبير".